" وليعلم أنه ليس أحدٌ من الأئمة ـ المقبولين عند الأمة قبولا عاماً ـ يتعمد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته دقيقٍ ولا جليل،فإنهم متفقون اتفاقا على وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -،وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك،إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه،فلا بد له من عذر في تركه،وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة، تتفرع إلى أسباب متعددة ... " ثم ذكرها ـ رحمه الله تعالى ـ وهي جديرة بالمراجعة لأهميتها،والمقصود هنا،وجوب التماس العذر لمن هذه صفته والله المستعان.
التنبيه الثالث:
أن الشخص قد يقرأ في بعض السير ـ وأعني بذلك سير التابعين ومن بعدهم ـ أخباراً عن أحوال وأقوال زائدة عن الأحوال التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم،فبالإضافة إلى ما سبق من التنبيهين السابقين: [وهما: التثبت في النقل،والتماس العذر لمن ثبتت عنه المخالفة] فلا بد من الوقوف مع هذه المسألة لكثرة ما يعرض لقراء السير من ذل.
وأكتفي في التنبيه على هذه القضية بذكر كلام متين لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في الفتاوى" 11/ 13 - 14 حينما تكلم عن بعض الأحوال التي تذكر عن بعض الصالحين من الزهاد والعباد والتي وقع فيها زيادة في العبادة والأحوال،قال ـ رحمه الله تعالى ـ:
" وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة،وأمثال ذلك،قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم،وعلى ما سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور توجب أن يصير الناس على طرفين:
قومٌ يذمون هؤلاء وينتقدونهم وربما أسرفوا في ذلك، وقومٌ يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها،والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون ... إلى أن قال: والصواب للمسلم: أن يعلم أن خير الكلام كلام الله،وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -،وخير القرون القرن الذي بُعث فيهم، وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه،ويُعْلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم،كما قال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم " وقال - صلى الله عليه وسلم -:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "،وقال تعالى:" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وإن كثيرا من المؤمنين ـ المتقين أولياء الله ـ قد لا يحصل لهم من كمال العلم والإيمان ما حصل للصحابة،فيتقي الله ما استطاع،ويطيعه بحسب اجتهاده،فلا بد أن يصدر منه خطأ: إما في علومه وأقواله،وإما في أعماله وأحواله،ويثابون على طاعتهم،ويُغفر لهم خطاياهم،فإن الله تعالى قال: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون،كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ... إلى قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال الله تعالى: قد فعلت،فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع، ومن جعل كل مجتهد في طاعةٍ أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا،فهو مخطئ ضال مبتدع ... ".
ولعلي أضرب لذلك مثلاً يمر كثيرا بقراء بعض سير العباد،فمثلاً: قد يقرأ أحدنا في ترجمة رجلٍ ما: أنه كان يقوم الليل كله، أو كان يختم القرآن كل يوم، أو كان يصوم الدهر،فإذا عرضنا هذه الأعمال على السنة وجدنا بعضها مخالف صراحةً للسنة كقيام الليل كله كما قالت عائشة رضي الله عنها،وبعضها الراجح فيها من حيث الدليل ـ أيضا ـ أنها مخالفة للسنة كختم القرآن في أقل من ثلاث، أو صيام الدهر.
التنبيه الرابع:
أنه ينبغي ـ بعد التثبت ـ من صحة ما قرأ، أن يسأل عن سبب هذا النقد؛ أو ذاك الذم، فقد يكون الدافع لذلك النقد الذي وُجِّه إلى ذلك الشخص هو الحسد، أو هو من قبيل التنافس بين الأقران، وما أعظم أثر هذا السبب!!!
¥