فالله، عز وجل، خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بكلمته الكونية: "كن"، وإطلاق المصدر على المفعول أمر جار في لغة العرب، كما في قوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)، أي: هذا مخلوقه، فأطلق المصدر على المفعول، وهذا ما يعرف بـ: "تبادل الصيغ"، وهو باب واسع في لغة العرب، إذ قد تأتي الصيغة دالة على معنى صيغة أخرى، فتأتي: "فعول" دالة على "فاعل"، كما في: "غضوب" و "صبور" فيستوي فيها المذكر والمؤنث، وتأتي "فعيل" دالة على "فاعل" كما في: "كريم" فتلحقها تاء التأنيث، وتأتي، أيضا، بمعنى "مفعول" كما في: "جريح" و "قتيل" فيستوي فيها المذكر والمؤنث .......... إلخ.
وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام، رحمه الله، بقوله:
"ثم نقول أيضا: أما قوله: (وكلمته)، فقد بين مراده أنه خلقه بـ: "كن" وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله هذا خلق الله ويقال درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ولهذا يسمى المأمور به أمرا والمقدور قدرة وقدرا والمعلوم علما والمرحوم به رحمة كقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}، "أي: مأموره، وكذا في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي: من مأموره، فهي مخلوقة بأمره الكوني فأطلق المصدر على المفعول المخلوق".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي". وقال: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فيها يتراحم الخلق ويتعاطفون وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها الخلق".
ويقال للمطر هذه قدرة عظيمة ويقال: غفر الله لك علمه فيك أي معلومه فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب"
بتصرف من "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، (2/ 339).
فليس بمستنكر في كلام العرب التي نزل بها الوحي: الإتيان بالمصدر دالا على المفعول، ولغة العرب فيصل في مثل هذه المواضع المشتبهة.
والكلمة التكوينية غير المخلوقة لا تحل أو تتحد بجسد مخلوق كما زعم المبطلون، لأن صفات الله، عز وجل، لا تتجسد في صور مخلوقة، وإلا لزم من ذلك فناؤها، لأن كل مخلوق فان، مصداق قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)، وفناء الصفة دال على فناء الموصوف، فهل يقول عاقل: عن ذات الله، عز وجل، القدسية، المتصفة بكل كمال مطلق، أنها: تفنى كذوات الخلق؟!!!.
ولذا أنكر أهل السنة على المعتزلة قولهم بتجسد كلام الله، عز وجل، موسى عليه الصلاة والسلام في شجرة، فنفس اللازم يلزمهم، لأن الشجرة، أيضا، مخلوقة، بل قولهم أقبح من جهة أن تجسد الكلمة في صورة المسيح عليه الصلاة والسلام، وإن كان باطلا، إلا أنه أشرف من تجسدها في صورة شجرة، لأن ذات المسيح، عليه الصلاة والسلام، أشرف من ذات الشجرة.
وإطلاق الكلمة هنا على المسيح عليه الصلاة والسلام من باب: "إطلاق السبب وإرادة المسبَب"، وهو أمر، جار في لغة العرب، ورد به التنزيل في نحو:
قوله تعالى: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ)، فأطلق سبب الحدث، وهو: "أكل الطعام"، وهو من عوارض النقص البشرية التي لا تليق بالخالق، عز وجل، وأراد مسبَبه، وهو: الحدث، ففي كليهما من النقص والحاجة ما يتنزه عنه الرب، جل وعلا، الغني بنفسه المغني لسواه، مصداق قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
¥