فكنى عما يستقبح ذكره، وهو أمر، أيضا، جار في لغة العرب، فقد أطلقوا لفظ: "الغائط" على الخارج، مع أنه في اللغة: الأرض المطمئنة التي كان العرب يرتادونها لقضاء حوائجهم، وأطلقوا لفظ: "العذرة" على الخارج، أيضا، مع أنه في اللغة: فِناء الدار لأنهم كانوا يلقون فيه فضلاتهم، فأطلق المحل فيهما وأريد الحال استقباحا لذكره صراحة.
ومنه الكناية عن الجماع وأمور النساء بـ: "الملامسة" و "الغشيان" و "المباشرة" و "الإتيان".
ومنه قول عائشة رضي الله عنها: (وكنت لا أصلي)، كناية عن الحيض المانع من الصلاة.
ومن إطلاق السبب وإرادة المسبب:
قول الشاعر:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة ******* بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
فأطلق السبب: "الدم"، وأراد مسبَبَه: "الدية"، فهو يتوعدها بذلك إن لم يرعها بضرة، كنى عن طول عنقها، ببعد مهوى قرطها، طيب ريحها، وفي ذكر محاسن الضد تعريض بالضد الآخر.
ومنه قولك: ما زلنا نطأ السماء:
أي: الطين والعشب، لأنهما مسببان عن نزول المطر، فأطلق السبب: "المطر"، وأراد مسبَبَه: "الطين والعشب"، وإليه أشار القرطبي، رحمه الله، بقوله:
"ويسمى الطين والكلأ أيضا سماء، يقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. يريدون الكلأ والطين". اهـ
"الجامع لأحكام القرآن"، (1/ 218).
وقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ******* رعيناه وإن كانوا غضابا
أي: إذا نزل ماء السماء بأرض قومه رعينا مسبَبَه: العشب، وإن كانوا غضابا.
فالهاء في: "رعيناه" ترجع على لفظ "السماء" دون معناه في الشطر الأول، فهي راجعة على مذكور لفظا، غير مذكور معنى، لأنه أراد معنى آخر غير المقصود في الشطر الأول، فهو:
في الأول: السبب "المطر"، فإطلاق السماء عليه مجاز علاقته "المحلية"، إذ أطلق المحل وأراد الحال فيه، وهو الماء الذي يحمله السحاب.
وفي الثاني: المسَبَب "العشب"، فإطلاق السماء عليه مجاز علاقته "السببية" كما تقدم.
واستعمال اللفظ المشترك بين معنيين على هذه الصورة يسميه البلاغيون: "الاستخدام"، إذ استخدم في كل شطر بأحد معنييه.
ومن ينكر وقوع المجاز في لغة العرب، فإنه يقول بأن جريان هذا الأمر في لغة العرب دليل على أنه حقيقة، لأن اللفظ إذا اطرد استعماله في اللغة لغير ما وضع له، صار حقيقة عرفية، والحقيقة العرفية مقدمة على الحقيقة اللغوية فضلا عن المجاز، والقائلون بالمجاز يسلمون بذلك، لأن الحقيقة العرفية عندهم: مجاز مشتهر يقدم على الحقيقة اللغوية.
الشاهد أن مؤدى كلا القولين: يرجح كون المسيح، عليه الصلاة والسلام، مخلوقا بالكلمة التكوينية: "كن"، ولا يقال بأنها الخالقة، لأن الصفة لا تخلق، كما أن الصفة لا تدعى من دون الله، فلا يقال: يا كلمة الله أنقذيني، وإن جاز التوسل بها، كما في حديث: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، ولم يقل: يا رحمة الله أغيثيني، وإنما توسل بها إلى الله، عز وجل، ليغيثه.
وقد جاء ذكر "الكلمة" في سياق الإثبات، فتفيد الإطلاق، كما في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ)
والمطلق، كما تقرر في الأصول: قسم من أقسام الخاص، فلا يدل على عموم الكلمات، وإنما يدل على كلمة واحدة، وهي الكلمة التكوينية: "كن" التي خلق بها عيسى عليه الصلاة والسلام، وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام، رحمه الله، بقوله:
"وذلك أن الله تعالى قال: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سورة آل عمران.
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس هو ما يقوله النصارى منها: أنه قال: (بكلمة منه)، وقوله: (بكلمة منه): نكرة في الإثبات تقتضي أنه كلمة من كلمات الله ليس هو كلامه كله كما يقول النصارى". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 337، 338).
قوله تعالى: (وروح منه):
¥