من: لابتداء الغاية، أي: روح من الأرواح التي ابتدأ الله، عز وجل، خلقها، وإنما خصت بالذكر، تشريفا، فالإضافة هنا على عكس الإضافة في: (كلمته)، فهي: إضافة مخلوق إلى خالق، كالإضافة في نحو:
قوله تعالى: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً).
وحديث عقبة بن عامر، رضي الله عنه، وفيه: (نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
وإضافة التشريف، أيضا، أمر جار في لغة العرب، فيقول الملك معظما شأن رسوله: هذا رسولي، ولا يقصد بذلك أنه صفة من صفاته، وإنما أضافه إليه على جهة التشريف، ولله المثل الأعلى.
وإلى أقسام الإضافة إلى الله، عز وجل، أشار ابن أبي العز الحنفي، رحمه الله، بقوله:
"فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْمُضَافَ إلى الله تعالى نَوْعَانِ:
صِفَاتٌ لَا تَقُومُ بِأَنْفُسِهَا، كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَة وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، فهذه إِضَافَة صِفَة إلى الْمَوْصُوفِ بِهَا، فَعِلْمُه وَكَلَامُه وَقُدْرَتُه وَحَيَاتُه صِفَاتٌ له، وَكَذَا وَجْهُه وَيَدُه سبحانه.
والثاني: إِضَافَة أَعْيَانٍ مُنْفَصِلَة عنه، كَالْبَيْتِ وَالنَّاقَة وَالْعَبْدِ وَالرَّسُولِ وَالرُّوحِ، فهذه إِضَافَة مَخْلُوقٍ إلى خَالِقِه، لَكِنَّهَا إِضَافَة تَقْتَضِي تَخْصِيصًا وَتَشْرِيفًا، يَتَمَيَّزُ بِهَا الْمُضَافُ عَنْ غيره". اهـ
"شرح الطحاوية"، ص380، 381.
ويلزم من قال بأن "من" في قوله تعالى: (وروح منه) للتبعيض أن يطرد القول في نحو:
قوله تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)
وقوله تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ولا أفسد من هذا اللازم.
وإلى ذلك أشار شيخ الإسلام، رحمه الله، بقوله:
"وقوله: "بروح منه" لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}، وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}، وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}.
فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة.
فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} ". اهـ بتصرف يسير.
وابتداء الغاية: أشهر استعمالات "من" حتى قال بعض النحاة بأن كل استعمالاتها إنما ترجع إليه، كما أشار إلى ذلك ابن هشام، رحمه الله، في "مغني اللبيب".
قوله تعالى: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ):
إيجاز بحذف ما دل السياق عليه، فتقدير الكلام: انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم، فَحَذَف كان واسمها، وهو أمر استعملته العرب في كلامها، لاسيما بعد: "إن"، و "لو"، كما في:
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ)، أي: ولو كان ملتمسك خاتما من حديد.
وقول الشاعر:
قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا ******* فما اعتذارك من قول إذا قيلا.
أي: إن كان ما قيل صدقا، أو: إن كان كذبا.
وإلى ذلك أشار ابن مالك، رحمه الله، بقوله:
ويحذفونها ويبقون الخبر ******* وبعد "إن" و "لو" كثيرا ذا اشتهر
وإلى حذف ما يعلم أشار ابن مالك، رحمه الله، أيضا، بقوله:
وحذف ما يعلم جائز كما ******* تقول "زيد" بعد "من عندكما"
قوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ):
¥