ويدور الحديث في هذا القسم عن سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية الملابسة للجملة الاسمية والتي تتمثل في:
1 - الابتداء بالنكرة.
2 - تقديم الخبر على المبتدأ.
3 - تقديم خبر كان على اسمها.
4 - تقديم خبر إن على اسمها.
فهذه الفروع تتضافر فيما بينها لتشكل منظومة " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية. والشيء العجيب حقا أن خروج (الفاصلة) بالتقديم أو بالتأخير عن مقررات النحو في المواضع الملابسة لها، إنما هو في جوهر الأمر مجرد شكل من أشكال " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية. فالفاصلة القرآنية في هذه المواضع لابد وأن تكون أحد طرفي الجملة الاسمية ملابساً لحالة (التأخير) دوما. فمثلا: في الابتداء بالنكرة ورد " التقديم والتأخير " ملابساً للفاصلة في (14 أربعة عشر موضعاً) كانت الفاصلة في كل هذه المواضع (خبرا) مؤخرا على خلاف القياس النحوي الذي يحكم للخبر في هذه المواضع بالتقديم لكون المبتدأ (نكرة). فمثلا قوله تعالى:? وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذَّبِينَ ? سورة المرسلات آية رقم (15). تكررت في هذه السورة في (10 عشر آيات) ودارت على الهيكلة التركيبية التالية:
(ويل + يومئذ + للمكذبين). (مبتدأ نكرة + ظرف + خبر شبه جملة).
والأصل في مثل هذا الأسلوب أن يؤخر (المبتدأ) لكونه نكرة، ويُقَدَّم (الخبر) لكونه (شبه جملة). وعلى هذا كان لابد أن يكون تركيب الآية – في غير القرآن – على النحو التالي: (للمكذبين يومئذ ويلٌ) أو (للمكذبين ويلٌ يومئذ).
فيختلف الأمر تماما حينئذ في السياق القرآني. ولذا كان لابد من مخالفة الأصل النحوي للحفاظ على الإيقاع الموسيقي المتولد من بناء أغلب فواصل السورة على حرف (النون) الذي تكرر في (29 تسع وعشرين آية) من إجمالي (50 خمسين آية) هي جملة آيات سورة المرسلات. ولنتخيل الأمر فلو كانت الآية – حاشا لله – على التركيب التالي: (للمكذبين يومئذ ويلٌ) فالإيقاع والنغم الجميل يختفي تماما.
إذن المخالفة للأصل النحوي هنا تمت حفاظا على السياق الإيقاعي بالدرجة الأولى. يقول العلوي: " الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاختصاص. وثانيهما: أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي في التسجيع " (). فهو هنا يرى في " التقديم والتأخير " الملابس للفاصلة أمرين هما:
الأول: التقديم للاختصاص. والأمر الثاني: مراعاة المشاكلة الصوتية المتولدة من بناء الفواصل على حرف متماثل. فالاختصاص هنا في هذه الآية السابقة لا يتحقق لكون (الخبر) غير مقدم. أما مراعاة المشاكلة الصوتية والإيقاعية فهو المراد هنا.
وفي " تقديم الخبر على المبتدأ " في الفاصلة القرآنية، نجد أن هذا ورد ممثلاً في (56 ستة وخمسين موضعاً)، منها على سبيل المثال:
- قوله تعالى: ? وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ? سورة ق آية رقم (4).
- قوله تعالى: ? مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ? سورة ق آية رقم (6).
- قوله تعالى: ?وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ? سورة ق آية رقم (43).
- قوله تعالى: ?وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ? سورة الممتحنة آية رقم (43).
هذه الآيات وظفت فيها الفواصل كأحد ركني الجملة الاسمية، وكانت دائما في هذه السياقات (مبتدأ) مؤخرا. والشيء الغريب أن التأخير في هذه السياقات لا ينحو نحو المشاكلة الصوتية للفاصلة، بل الأمر هنا على أغراض بلاغية متولدة من سياقات تقديم الخبر (شبه الجملة). وليست فقط على (الاختصاص) الذي تواطأ البلاغيون على وسم مبحث " التقديم والتأخير " به في كل مناسبة.
ونظرة بسيطة إلى مواضع " تقديم الخبر على المبتدأ " في سياقات الفاصلة القرآنية تبين بحق المواضع المستحقة للتأخير، والمواضع الأخرى التي لا تستحق هذا التأخير. فقد استحق المبتدأ التأخير لكونه (نكرة) مجرورة في (15 خمسة عشر موضعاً) فقط. ونظراً لكون الخبر (شبه جملة)، وكان المبتدأ في هذه المواضع هو (الفاصلة). في حين تأخر (المبتدأ) في بقية المواضع وعددها (41 إحدى وأربعين موضعاً)، ولم يكن يستحق التأخير في هذه المواضع لكونه ملابسا لما يوجب له التقديم. فقد توزع المبتدأ في هذه المواضع كما يلي:
¥