فمدار التقديم هنا بالدرجة الأولى على جواز هذا التقديم لا وجوبه، وهذا يفضي بنا إلى استنتاج أن التقديم كان بهدف الحفاظ على النسق الإيقاعي للفواصل في هذه الأبيات.
* فآية سورة المدثر الفاصلة فيها مبنية على حرف (النون)، والذي هو أحد الحروف التي بنيت عليها فواصل السورة، إذ ورد ممثلا في (10 عشر آيات) من آيات السورة. ويمكن القول أيضا بأن تقديم (الحال) هنا على غرض بلاغي دقيق وهو (البشارة) هذه البشارة للمؤمنين يجعل الأمر على كونهم في الجنات (يتسامرون). ومن هذه المسامرات سؤالهم عن (المجرمين). لكن لو دار الأمر على الابتداء بالسؤال أولا ثم بناء الحال (شبه الجملة) على (الفعل) لكان الأمر على غير ذلك، فيكون مدار السياق على أن السؤال هنا على وجهه، لا على وجه المسامرة.
* أما الآيتان رقم (23، 35) من سورة المطففين فهما على مدار السياق السابق نفسه، على مراعاة التشاكل الصوتي والإيقاعي للفاصلة والتي هي مبنية على حرف (النون) الذي ورد ممثلا في نهاية الفواصل في (27 سبع وعشرين آية) من جملة آيات السورة البالغ عددها (36 ست وثلاثين آية). وعلى غرض (البشارة) المتوقع من تقديم الحال (شبه الجملة)، و (النكاية) بأعداء الله الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا. هكذا تسير دلالات توظيف الفاصلة القرآنية في سياق التقديم في جملة الحال.
3 - تقديم النعت على منعوته:
اتفق النحويون على أن النعت إذا صلح لمباشرة العامل وكان معرفة جاز تقديمه، على أن يعرب المنعوت بدلاً منه (). ويرى ابن عصفور: أنه لا يجوز تقدم النعت على المنعوت إلا ما سمع منه وهو قليل (). هذا وللعرب في مثل هذا الأسلوب وجهان:
الأول: تقديم النعت وإبقاؤه على ما كانت عليه قبل التقديم، أي على حكمها الإعرابي.
والثاني: أن تضاف الصفة المقدمة إلى الموصوف. أما إذا كان المنعوت نكرة، وتقدم على منعوته، فإنه ينصب على (الحال).
هذا وقد ورد تقديم النعت على المنعوت في (حزب المفصل) في (آيتين) هما:
- قوله تعالى: ? وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ? سورة الحاقة آية رقم (17).
- قوله تعالى: ? يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ? سورة الحاقة آية رقم (18). فقد قدم النعت هنا (شبه الجملة) في الآية الأولى الظرف المكاني (فوقهم) مقدم على المنعوت الفاعل (ثمانية). ووفقا لرأي مكي بن أبي طالب () فإن (فوقهم) هنا أصلح (للحالية) منها للنعتية، لأن نعت النكرة إذا قدم عليها نصب على الحال. لكننا هنا نخرج هذا النعت على النعتية تقيداً بمفردات النحويين في هذا الأمر. والفاصلة هنا متمثلة في الفاعل (ثمانية) وسياق الكلام - في غير القرآن - (ويحمل ثمانيةٌ عرشَ ربك فوقهم يومئذ). لكن الذي حدث هنا هو توالي ألوان من التقديم تمثلت في:
1 - تقديم المفعول (عرش) على الفاعل (ثمانية) على غير قياس.
2 - تقديم النعت (فوقهم) على المنعوت (ثمانية) على غير قياس.
3 - تقدم الظرف الزماني (يومئذ) بحرية، إذ لا رتبة له.
هذه الألوان من التقديم تضافرت معاً تشكل منظومة سياقية ودلالية في هذه الآية مدارها (التسليم التام) بالقدرة العظمى للمَلِكِ - جل شأنه - فمن يَحمل؟ وكيف يَحمل؟ أيَحمل أم يُحمل؟. كما أن إرادة الحفاظ على النسق الصوتي والإيقاعي المتولد من بناء الفاصلة على (تاء التأنيث المتحركة) والتي وردت ممثلة في آيات السورة في (23 ثلاث وعشرين آية) من إجمالي (52 اثنتين وخمسين آية) هي جملة آيات السورة. فهذه التداخلات السياقية كان لها أكبر الأثر في التوجيه البلاغي لهذه الآية.
* أما الآية الثانية فهي على المدار نفسه، لا تكاد تختلف في دلالاتها إلا في كون النعت شبه الجملة المقدم هنا (جار و مجرور) وهو (لكم) مقدم على المنعوت النكرة (خافية). فالدلالات في هذه الآية هي نفسها المنتجة من سياق الآية السابقة.
تلك هي أهم دلالات ورود الفاصلة في سياق التقديم في جملة النعت.
4 - تقديم أشباه الجمل:
¥