ونتلمس هذا اللون في سياق النص القرآني في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (). فقد تجاور لفظ الجلالة (الله) مرتين بلا فاصل، ولكل منهما دلالته العامة والخاصة، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن أحدهما على الإطلاق.
وهذا اللون البديعي تعتمد فيه الأسلوبية الصوتية على بنية التكرار الخالصة وذلك على مستوى البنية السطحية والعميقة معاً. كما أن حركة المعنى فيه تأخذ شكلاً رأسياً بوضع المعنى طبقات بعضها فوق بعض، مع توازيها في قيمتها التعبيرية، وإن اختلف الأثر الدلالي النهائي نتيجة لتراكم هذه الدلالات ().
تلك هي أهم الأنماط التكرارية التي تتخذ من تكرار اللفظ والمعنى شكلاً تعبيرياً خاصاً بها في أداء ما يناط بها من وظائف أسلوبية سياقية في تقاطعات سياقاتها مع سياقات الألوان الأخرى، وما يؤدي غليه كل ذلك من جماليات نصية هي المبتغى من وراء هذه التوظيفات.
ثانياً: تكرار اللفظ دون المعنى
ويقصد به ذلك اللون من التكرار الذي يعتمد التوافق السطحي الشكلي بين البنى التركيبية مع الاختلاف على مستوى البنية العميقة لهذه البنى. ولهذا اللون من التكرار أشكال متنوعة تفصيلها كالتالي:
1 - الجناس التام:
وله ثلاثة أضرب هي (المماثل، والمستوفي، والمركب) ()، نفصل القول فيها كما يلي:
أ – المماثل: ويقصد به اتفاق اللفظين في أنواع الحروف وعددها وهيئاتها وترتيبها مع الاختلاف في المعنى. وقد يكون اللفظان اسمين كما في قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (). فقد جانس هنا بين كلمتي (الساعة) أي يوم القيامة، و (ساعة) أي مدة زمنية قصيرة. وواضح هنا أن التماثل على المستوى (الخطي) فقط، وهناك اختلاف على مستوى البينة العميقة للكلمتين.
وقد يكونا فعلين كقولهم: (فلان يضرب في البيداء فلا يضل، ويضرب في الهيجاء فلا يكل). فالجناس هنا بين فعلين (يضرب) الأول منهما بمعنى يقطع المسافة، والثاني بمعنى الحمل على الأعداء.
وقد يكون اللفظان حرفين كقولهم: (قد يجود الكريم، وقد يعثر الجواد). فالجناس هنا بين حرفين (قد) الأول منهما يدل على الكثرة لدلالة القرينة اللفظية التالية لها (الكريم)، والثاني يدل على القلة.
ويعتمد هذا اللون من الجناس على فكرة (المخادعة) وكسر أفق التوقع الدلالي الناتج عن اتحاد اللفظين شكلياً، وذلك عند تلقيهما من جانب القارئ خاصة في ظل اتحادهما الصوتي. فالمتلقي هنا يكون أمام نوعين من التلقي هما:
الأول: التلقي البصري الناتج عن التماثل الشكلي الذي يؤدي إلى توهم خاطئ بفكرة الاتحاد الدلالي.
والثاني: التلقي الثقافي أي وفق الخلفية الثقافية للمتلقي من خلال إدراكه لفنية الاختلاف الدلالي بين اللفظين، وتخالف البنية العميقة لكل منهما، ثم إدراك المخادعة الدلالية التي تمت في سياق هذا اللون البديعي، وما لها من أثر جمالي في هذا السياق ().
ب – المستوفي (): وهو ما كانت كلمتاه من نوعين مختلفين كأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلاً، أو أن يكون إحداهما اسماً أو فعلاً والآخر حرفاً. فمن أمثلة الجناس المستوفي بين اسم وفعل قول أبي تمام ():
مَا مَاتَ منْ كَرَمِ الزَّمَانِِ فَإِنَّهُ يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بن عَبْدِ الله ِ
فقد جانس هنا بين اسم (يحيى) وفعل (يحيا).
ومن أمثلة المستوفي بين فعل وحرف قولنا: (علا سيدنا محمد على جميع الأنام). فقد جانس هنا بين فعل (عَلا) وحرف جر هو (على).
ومن أمثلة الجناس المستوفي بين اسم وحرف قوله – صلى الله عليه وسلم -: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها، حتى ما تجعل في فِي امرأتك) (). فقد جانس هنا بين اسم (فِي) وهو الفم وحرف جر هو (في).
جـ- المركب (): إذا كان أحد طرفيه مركباً من أكثر من كلمة والآخر مفرداً. وهو ثلاثة أقسام هي:
1 - المرفو: إذا كان طرفه المركب مركباً من كلمة وبعض كلمة، وذلك مثل قول أبي القاسم الحريري ():
ولا تَلْهُ عَنْ تِذْكَارِ ذَنْبِكَ وابْكِهِ بِدَمْعٍ يُحَاكِي الْوَبلَ حَالَ مَصَابِهِ
¥