أما لحن السورة وهو مجموع النغمات بمفاتيحها وفواصلها في حالات ارتفاعاتها وانخفاضاتها فإنه يعتمد على لونين من الإيقاع:
- أولهما: إيقاع هادئ بطيء هو اللون الثانوي كما في الجملة الثانية.
- وثانيهما: إيقاع شديد بارز هو النغمة الرئيسة، ويبدو في حدة كلماته، وشدة نبراته ممثلاً في (النزع، والغرق، والراجفة، والرادفة، والزاجرة، والطامة، وطغى، وبرِّزت، والجحيم). وكان يتم الانتقال من نغمة إلى نغمة، أو من جملة إلى جملة ضمن الإيقاع العام، ويجمعها جميعاً صور من صور التعانق أو التآلف التي تسري فيها حركة واحدة رغم تموجها، هي حركة الإيقاع وحركة الصورة، وحركة الكون الخارجي، وحركة النفس الداخلية. وهي حركات تقوم على الرجف والوجف والاضطراب، وتكون النتيجة أن القلب البشري يحس في ذاته آثار الزلزلة والهول، ويهتز هزة الخوف والوجل، ويتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يوم الفزع الأكبر من ارتعاش لا ثبات معه، وبذلك يصل القرآن إلى مقصده.
هذا هو المصدر الأول لإيقاع القرآن متمثلاً في إيقاع النص , و يتجلى واضحاً لكل من عاش القرآن، واستلهم روحه، وأرهف السمع لنغماته.
ثانياً: مصدر المقرئ (التالي) – التنغيم:
نميز تلاوة القرآن من تنغيمه، فالتلاوة بطرائقها الثلاث: الترتيل والتدوير والحدر علم شرعي يتناول الحروف في مخارجها وصفاتها، وهو علم قديم له أصوله وقواعده التي ثبتت عبر العصور فلم تتغير، ولعل القرآن من هذه الجهة هو الحافظ الوحيد الذي حفظ العربية وطريقة نطق حروفها، ومن يستمع إلى المصحف المرتل يستطيع أن يتمثل أحكام النطق ومواقع النبرات في لغتنا.
أما التنغيم أو التغني فأمر آخر مختلف، إنه فن المقرئ الخاص، وكيفية أدائه للقرآن، مظهر من مظاهر الإبداع، أو محاولة من المرتل لإظهار براعته، علاوة على تعميق أثر النص الذي يقرؤه في نفوس سامعيه، وبهذه الدلالة للتغني يكون أقرب إلى الموسيقى منه إلى التلاوة، فهو والغناء صنوان يلتقيان في الأصل الإيقاعي وفي الجذر اللغوي ثم يفترقان أو يتخالفان.
ثالثاً: مصدر المتلقي:
لا شك أن في القرآن نوعاً من الموسيقى الخفية تلفظ ولا تشرح، لكن كيف ندرك هذه الموسيقى، وهذا الإيقاع؟ وهذا التساؤل يلحق به تساؤل آخر مكمل له هو: كيف نتلقى القرآن؟ فالدراسات النفسية والجمالية لعملية التلقي تثبت أن تركيب الأثر الفني لا يكون تاماً ولا كاملاً إلا إذا التقت في رحابه وتداخلت طاقتان الطاقة الكامنة في النص والطاقة المنبثقة عن التلقي ().
والتقاء عالَم النص وعالَم المتلقي أمر ضروري لحياة النص، فللنص حياة تعج بالحركة والامتداد بما يحمله من كلمات تعبيرية وصور فنية، وقيم موسيقية، وتركيبات بلاغية. أما عالم المتلقي فله حياة وخبرات جمالية وثقافية تتصف هي الأخرى بالحركة والتقابل والامتداد. ومن خلال عملية الإدراك تتصالح الحياتان، وتلتقي الطاقتان (الطاقة الكامنة في النص، والطاقة المنبثقة عن القارئ)، ولن يكون التلقي كاملاً، ولن يدرك القرآن إدراكاً كاملاً، إلا إذا تداخل العالمان وتناغما.
فالقرآن يملك قيمه الروحية والفنية الخاصة به، وهذه القيم لا تحضر إليه أو تفرض عليه، والمتلقي الذي يكابد قراءته وتدبره، ويعيش عالمه، ويحلله لا يجلب معه قيماً يتخيلها، أو لا يفترض في النص الذي بين يديه قيماً غير موجودة، إنه يكشف القيم الكامنة فيه. وفي حالة القرآن تبدو العلاقة بين النص وقارئه أقوى لأن الأمر يتعلق بالإيمان، بتلك الحالة النفسية التي اشترط بعضهم وجودها لإدراك ما في الكتاب من جمال ومن أداء ومن إعجاز. وحين يعايش المتلقي عالم الإيقاع القرآني يجد نفسه في واحد من أربعة مواقف ():
1 - أن يشعر بالإيقاع وجوداً ونوعاً ويعلله.
2 - ألا يلاحظ شيئاً اسمه إيقاع.
3 - أن يرى تناقضاً بين المعلومات التي يعرفها عن الإيقاع وهذا الذي يجده في النص.
4 - أن يحس الإيقاع ولكنه لا يستطيع أن يشرحه ويعلله، أو يحدد مصدره.
¥