فالموقف الأول منطقي ومتماسك، والثاني يشير إلى أن إحدى الطاقتين الكامنة أو المنبثقة معطلة، والثالث يدعونا إلى أن نجعل من معلوماتنا أداة موظفة لخدمة الإحساس وإلا حكمنا بفسادها ولو جزئياً إذا ناقضته، أما الرابع فقد أغنانا عن التعليق عليه الخطابي حيث ذهب في رسالته عن إعجاز القرآن) إلى أن (السبب قد يخفى وأثره في النفس واضح، وهذا لا يقنع في باب العلم) ().
ودون أن نصل إلى ذلك نقول أن مجرد المحاولة لتلمس الظواهر الإيقاعية في التعبير القرآني مهما خفيت تظل ضرورية بغض النظر عن نتائجها. وتظل موسيقى القرآن هي موسيقى النفس، ويظل الإيقاع هو المعبر عن حالات تلك النفس، ويرتبط بحركة شعورها، لأنه في حقيقة الأمر هو صوت النفس البشرية، صوت حالاتها المتباينة، صوت فرحها وحزنها، أملها ويأسها، غضبها وسعادتها. لقد صور حركة إحساسها، وكان صدى مشاعرها وانفعالاتها، وبلغ في ذلك الغاية، وأربى على الغاية تعبيراً وتأثيراً.
إضاءة:
كان مما لاحظناه من خلال التنقيب في النص القرآني قيمتين صوتيتين تسهمان في تشكيل الإيقاع القرآني، وتؤديان إلى قيامه بأدواره المنوطة به. وهما: (التنوع، والتوقع). ونفصل القول في كل منهما لأهميتهما في سياق الإيقاع القرآني.
التنوع:
لعل أهم ما يميز الإيقاع النثري من الإيقاع الشعري أن الأول أكثر تنويعاً من الثاني، فمهما حاول الشعر أن يعفي نظمه من التفاعيل حتى ينطلق وراء الإيقاع يجد نفسه مصفداً بالوزن. أما النثر فليس لديه وزن يقيده، ولا أطوال أو أقدار يلتزم بها، لديه حرية كاملة في تخير الإيقاع الذي يلائم التعبير، وعندما يفك ذاته من ربقة القيد الوزني، تتدفق نغمات الإيقاع رخية سلسلة ذات ألوان لا حصر لها.
وعلى هذا فربما يكون في إيقاع القرآن ثلاث قواعد:
- أولاها: توحد الإيقاع مع اختلاف المعنى.
- وأخراها: تنوع الإيقاع بتنوع المعنى.
- وثالثتها: اتساق الإيقاع مع الجو العام للمعنى، وتعدده بتعدد هذا المعنى.
والفرق بين القاعدتين الأخيرتين هو الفرق بين المعنى والجو العام، فقد يكون الجو واحداً والمعنى متعدد، وقد يكون المعنى واحداً والجو متعدد. فإذا تم التوافق والانسجام بين الإيقاع وتعدد المعاني في السورة الواحدة فليس من الضروري أن يطَّرد بين الإيقاع والمعنى حيثما يرد. وهذا يعني:
-1أن يتسق الإيقاع مع المعنى في آية أو جملة من الآيات.
- 2أو يأتي واحداً في سورة متعددة المعاني.
- 3أو يتعدد بتعدد المعاني في السورة الواحدة.
- 4أن يتلون رغم توحد المعنى في غير سورة.
- 5أن يتغير بتغير الأجواء باطراد لا ينسى.
وفيما يلي نماذج تطبيقية لهذه الصور السابقة:
1 - في سورة (هود) يقص الله علينا قصة نبي الله نوح- عليه السلام - مع ابنه في سياق قصة الطوفان. يقول تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {43}). إن التشكل الموسيقي للعبارة يتلاءم التلاؤم كله مع المعنى، فالمشهد عاصف، وموج عات كالجبال، وطوفان يغرق كل شيء، وناس بين الموت والحياة، وهتاف الأب بابنه أن يأتي، ونهاية بالغرق. ويجيء الإيقاع يحمل هذا المعنى فهو يتموج موجات طويلة في البداية، يمتد في عمق وارتفاع، ويشارك في رسم الهول العريض، والأسى الفاجع، وتساعد المدات المتوالية للألفاظ في تكوين الإيقاع عمقاً وسعة وبروزاً، حتى يتسق مع المعنى والمشهد العجيب، وينحسر في النهاية سريعاً كما انحسر الموج عن الغريق.
¥