تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كما أن هؤلاء الأعلام في تناولاتهم التحليلية الرائقة لهذه التشكيلات الصوتية قد وقفوا على معطيات جمالية لهذه الحروف المقطعة وربطوها بالمعطى الصوتي وما له من أثر بلاغي في سياق هذه التشكيلات. فمن ذلك ما أفاده الزركشي في تحليله لابتداء سورة (ق) بهذا الحرف، وما أفاده في السياق الكلي للسورة. يقول الزركشي: " تأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة، وكيف تجد السورة مبنية على ذلك الحرف. فمن ذلك ? ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ? () فإن السورة مبنية على الكلمات القافية من: ذكر القرآن، ومن ذكر الخلق، وتكرار القول ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب، وذكر السايق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرآن، والتنقيب في البلاد، وذكر القتل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وخوف الوعيد، وغير ذلك " ().

فهو هنا يتناول الدلالة الصوتية التي أداها توظيف حرف القاف في سياق السورة كلها، وكيف أن البناء الهيكلي للسورة قام في جوهره على كلمات اشتملت على هذا الحرف بكل ما يحتويه هذا الحرف من خصائص صوتية وسياقية التي تدور في مجملها على الشدة والقلقلة من جهة، وعلى الجهر والانفتاح من جهة أخرى.

كذلك نلمس مثل هذا التوجيه الدلالي للمعطى الصوتي لهذا الحروف المقطعة في السور القرآنية من خلال محاولة تفسير الخصوصية الصوتية للابتداء بالحرف (ص) في بداية سورة (ص)، وربط تلك الخصوصية بالدلالات المتنوعة بما يتناسب ودلالة هذا الصوت على الخصومات الشديدة، والجدال المفرط، وصدى ذلك على الأسماع، واشتمال ذلك كله على أحاديث السورة نفسها، في محاكاة لما تضمنته من أحاديث وجدالات موظفة في سياق آياتها. يقول الزركشي: " تأمل ما اشتملت عليه سورة ص من الخصومات الشديدة، فأولها خصومة الكفار مع النبي ? وقولهم: ? أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً? () إلى آخر كلامهم. ثم اختصام الخصمين عند داوود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات والكفارات. ثم تخاصم إبليس واعتراضه على ربه وأمره بالسجود، ثم اختصامه ثانية في شأن بنيه، وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل الإخلاص منهم " ().

هكذا نجد الزركشي في تنبيهاته الصوتية - سواء كان ناقلاً لها، أم مجمعاً لشتاتها، أم مبتدعاً لبعضها – يؤكد مدى ما وصله أهل العربية من تعمق وإدراك للدلالات الصوتية الناشئة عن توظيف الحروف المقطعة في أوائل بعض السور القرآنية، ومحاولاتهم إبراز حقائقها الجمالية، وإن كان ذلك لا يخرجها عن كونها حروف لها وقع سمعي صوتي مؤثر بعيداً عن إدراك مراميها الخافية عنا.

غير أنه يجب التنبه إلى حقيقة واقعة تتمثل في كون هذه الحروف تنطق كنطق الأصوات، ولا تلفظ كلفظ الحروف، بمعنى أننا نقول في قوله تعالى: ? ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ? () هكذا (نُون) صوتاً نطقياً، لا حرفاً مرسوماً (ن) أو (نْ). وكذلك سائر الحروف المقطعة في فواتح السور فكلها تنطق بأسماء تلك الحروف أصوااتاً، لا بأشكالها الهجائية المرسومة، مما يقرب منها البعد الصوتي المتوخي، في حين أنها كتبت في المصاحف على صورة الحرف لا صورة الأصوات ().

ولذا أشار الطوسي (ت 460 هـ) إلى جزء من صوتية هذه الحروف بملحظ الوقف عندها بقوله: " أجمع النحويون على أن هذه الحروف مبنية على الوقف لا تعرب، كما يبنى العدد على الوقف، ولأجل ذلك جاز أن يجمع بين ساكنين، كما جاز ذلك في العدد " ().

وهكذا ندرك الأثر الجمالي الناشئ عن هذه الحروف المقطعة في تعانق سياقاتها الصوتية مع سياقات الدلالة في السور التي تقع فيها.

أما اختيار النص القرآني للكلمات، وانتقاؤه للألفاظ فقد جرى مجرى عجيباً في هذا الإطار، إذ نجد في اختيار حروف الكلمة نوعاً من الإعجاز يغلف هذا الاختيار، فنجد الكلمة صافية الأصوات، جميلة الوقع في السمع، طيبة المجرى على اللسان، معتدلة التأليف، نازلة على أحسن ما يكون من هيئة في الإيقاع، موحية بكل ما تريده من دلالات ومقاصد وأغراض.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير