الكلمة القرآنية تنتقى في أحسن ما يكون من تراكيب الحروف، وتناسق الأصوات في الائتلاف ما بين الرخو الشديد، والمجهور والمهموس، والممدود والمقطوع. ولذا وجدنا طائفة من ألفاظ القرآن الكريم اتسمت بهذا الجمال الصوتي معتمدة في ذلك على حسن التأليف، وجمال الائتلاف. فحينما يتحدث القرآن الكريم عن النار وشدة العذاب يختار لهذا السياق ما يوافق مقامه من الأصوات والألفاظ الدالة على الشدة وإثارة الفزع كما يلي:
* اجتماع صوتي (الظاء، والشين) في قوله تعالى: ? يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ ? ().
* اجتماع صوتي (الشين، والهاء) في قوله تعالى: ? إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ ? ().
* الوضوح السمعي لحرف (الظاء) في قوله تعالى: ? فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ? ().
* الوضوح السمعي لحرفي (الظاء، والفاء) في قوله تعالى: ? إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ? ().
فهذه الأحرف تنقل لنا في سياقها المؤتلف مع بقية أحرف الكلمة في الآيات السابقة صورة مشهدية متكاملة للنار مهتاجة مغتاظة غاضبة، تكاد تنقض على الكافر المعرض عن دعوة الله، الصاد عن سبيله ().
كما أن هناك نسبة كبيرة من الحروف يرتبط صوتها بما تؤديه من معنى ارتباطاً وثيقاً، وذلك وفقاً لما قاله ابن جني عند حديثه عن هذا الأمر بقوله: " فإنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها " ().
وتأسيساً على هذا الطرح وجدنا النص القرآني يوظف مجموعة من الكلمات تم اختيارها بدقة لتحاكي أصواتها المؤلفة لها، وتستوحي دلالتها من جنس صياغتها، فجاءت دالة على ذاتها بذاتها. فمنها:
1 - دلالة مادة (صرخ) في القرآن الكريم وما تحمله من بعث الصرخات والصيحات المفزعة، والصراخ الشديد. نلمح ذلك في قوله تعالى: ? وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ? () مما يوحي بأن هذا الصراخ قد بلغ ذروته، وأن الاضطراب قد تجاوز مداه، فاصطدمت الأصوات الصارخة بعضها ببعض دونما إجابة لهذا الصراخ، فقد بلغ اليأس بهذه الصرخات مداه، ووصل القنوط إلى منتهاه (). وبتأمل هذا اللفظ الناشئ من توالي (الصاد) و (الطاء) ثم تقاطر (الراء) و (الخاء) ثم الترنم الرائق بالواو والنون، كل هذا يمثل في سياقه النصي (رنَّة) الاصطراخ المدوي ().
يقول الطبرسي (ت 548 هـ): " الاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة، افتعال من الصراخ، قلبت التاء طاءا لأجل الصاد الساكنة قبلها، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين، يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق، يوافق التاء في المخرج " ().
ونلمس دلالة المادة نفسها في قوله تعالى: ? فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ? () فنرى بأعيننا طرف يدعي البراءة التامة من كل الآثام والذنوب والعصيان، وطرف يعاني الإحباط التام، غير أن الطرفين في نهاية المطاف فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً، فلا منقذ ولا صريخ لهم من هذا المصير ().
كذلك ما نلمسه من سياق دلالي للمادة ذاتها في قوله تعالى: ? فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ? () بما يحمله هذا الاستصراخ من إلحاح في طلب النجدة والنصرة في فزع، ومحاولة الإنقاذ المرتقب، والاستعانة بما يردعه خصمه عن الإيقاع به. إننا نسمع بحق هذا الاستصراخ، بل نكاد نضع الأصابع في الآذان جراء هذا الإلحاح في هذا الطلب، ونتمنى إجابته رغبة في سكوته ().
2 - دلالة مادة (كبّ) التي تدور حول إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى: ? وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ? (). ولأن الوجه أشرف مواضع الجسد، جاء التعبير بالكبّ دلالة على المهانة، وليس للكفار إلا هي بعد كفرهم.
¥