وتتعاضد هذه الدلالة الجمالية لمادة (كبَّ) مع نظائرها في القرآن الكريم كما نلمس ذلك في قوله تعالى: ? أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? ()، كذلك في قوله تعالى: ? فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ? (). ويرى الراغب أن " الكبكبة تدهور الشيء في هوة " ().
وهذه الصيغة حَمَلَت اللفظ شحنات دلالية أخرى بتكرار أصواتها، زيادة على معنى التدهور كما أفاد العلامة الطيبي بقوله: " كرر الكبّ دلالة على الشدة " (). فما يراد بهذه المادة هو الدلالة الصوتية على معانيها، وحكاية أصواتها لأحداثها المعبِّرَة عنها، وهذا ما تم في سياقات المادة في النص القرآني.
3 - دلالة الكلمات الدالة على أسماء القيامة وأوصافها فكأنها تحكي عن هذا اليوم ووظيفة كل اسم من هذه الأسماء في قيامه بما يطلب منه في هذا اليوم العصيب. وهذه الأسماء بما تحويه من مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمدّ والتشديد يوظفها النص القرآني في أجمل ما يكون من توظيف، فنستوحي من أدائها الصوتي مدى شدتها. ومن ذلك ما نلمسه في قوله تعالى: ? الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ? ().
فلفظ (الحاقة) يستدعي نسبة عالية من الضغط على الأحرف خاصة على حرفي (الحاء) و (القاف المشددة)، وكذلك الأداء الجهوري الزاعق بما يتوافق نسبياً مع إرادة جلجلة الصوت دلالة على مقدار الفزع الهائل في هذا اليوم. يقول الفراء: " الحاقة: القيامة، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء " (). ويقول الطبرسي: " الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع، صادقة الوجود. وقيل: سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار، من قولهم: حاققته فحققته، مثل: خاصمته فخصمته " ().
وعلى هذا التلوين يؤدي اللفظ ما أنيط به من حكاية أصواته لمعانيه وفقاً لمقدرات الأحداث التي وظف فيها هذا اللفظ. ويندرج في الإطار ذاته كلمات أخرى دالة على القيامة مثل كلمة (الصاخة) في قوله تعالى: ? فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ? ()، وكلمة (الطامة) في قوله تعالى: ? فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ? ()، وكلمة (القارعة) في قوله تعالى: ? الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ? ()، وكلمة (الواقعة) في قوله تعالى: ? إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ? ()، وكلمة (الآزفة) في قوله تعالى: ? أَزِفَتْ الْآزِفَةُ ? ()، وكلمة (الغاشية) في قوله تعالى: ? هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ? ().
وهكذا يتعامل النص القرآني مع كلماته من حيث الاختيار أولاً ثم من حيث فنيات التوظيف لهذا الكلمات بما تتضمنه من أصوات يقوم بتوزيعها في نسيج الكلمة ثم العبارة، مما يحقق التأثير المطلوب من هذا التوظيف والاختيار. كما أن هذا التوظيف للأصوات والكلمات في السياق القرآني يتم بحيث يتكون لهذه الأصوات " تأثير ذو إيقاع قوي إذا كانت نسبة الأصوات ذات الجرس القوي غالبة عليها، ويكون ذو إيقاع رخي إذا كانت نسبة الأصوات اللينة والضعيفة غالبة عليها " ().
4 - الدلالة الصوتية والجمالية لماد (مسَّ) في التوظيف القرآني، بما تضمه من صوت مهموس، ونظم رقيق متولد نتيجة تضعيف حرف الصفير (السين)، أو فك هذا التضعيف في مواضع أخرى مثلما نجد في قوله تعالى: ? وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ ? (). وهذه المادة في رقتها الصوتية، وشدتها الدلالة تدل على كل ما يعانيه الإنسان من أذى أو مكروه كما نلمس ذلك في سياق الآيات التالية:
* قوله تعالى: ? إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ? ().
* قوله تعالى: ? فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ? ().
* قوله تعالى: ? وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ? ().
* قوله تعالى: ? وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ ? ().
* قوله تعالى: ? وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ ? ().
¥