* قوله تعالى: ? لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ? ().
فهذه الصيغ المتنوعة لمادة (مسّ) تدل دلالة أكيدة على شدة البلاء والابتلاء، وهو ل المصاب، رغم أن اللفظ فيها رقيق رفيق، لكن المعنى شديد عظيم.
كما أن هذه المادة قد وردت في سياق النص القرآني محملة بدلالات أخر تدل على استواء الأمرين في معانقتها لسياق السراء والضراء معاً كما نلمس ذلك في قوله تعالى: ? إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ? ()، فالسراء والضراء على حال واحد في مسهم، فلم يتغير اللفظ في الحالتين دلالة على شدة الملابسة.
كذلك عبرت مادة (مسّ) في القرآن الكريم على دلالة أخر مثل دلالتها على النكاح مثلما نجد في قوله تعالى: ? لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ ? ()، وقوله تعالى: ? أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ? (). أو دلالتها على الجنون كما في قوله تعالى: ? الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ? (). وما هذا التوظيف لسياقات مادة (مسّ) إلا تحقيقاً للاختيار الدقيق للمادة من حيث الائتلاف الصوتي والحرفي لها مع السياقات النصية لتوظيفاتها في النص القرآني، ووصولاً لأغراض دلالية وجمالية مرادة من هذا الاختيار والتوظيف.
وهكذا يلمح اتكاء المعطى الصوتي في انتقاء الكلمة القرآنية على مبدأ التلاؤم والائتلاف الحرفي في بنى هذه الكلمات من ناحية، ثم في مجاورتها لنظائرها السابقة واللاحقة في السياق الجملي والتركيبي من ناحية أخرى، بما يخدم المقاصد التي تم من أجلها هذا الاختيار.
2 - ائتلاف الحروف المتماثلة في الكلمة:
سلك النص القرآني طرقا من النظم في تأليف الألفاظ والأصوات تجنَّبَ بها كل ما من شأنه أن يؤدي إلى التعقيد اللفظي، أو التنافر الصوتي، وأسبابهما لا شك كثيرة ومتنوعة. فقد يتأتى التنافر الصوتي من تتابع بعض الأصوات، أو تتابع بعض الحركات الثقيلة، أو من استعمال صيغ لفظية في نسق غير ملائم لها. وقد تجنب القرآن الكريم كل هذه الأسباب، وسخّر ما في العربية من طاقات وإمكانات صوتية وصرفية ونحوية ودلالية للتعبير الدقيق عن معاني الألفاظ، مع الحفاظ على جمالية النظم والتناسب الصوتي لهذه الألفاظ.
ومن أسباب التنافر الصوتي في العربية اجتماع الحروف المتماثلة في الكلمة الواحدة مما يقتضي العُسْر في النطق، والثقل في اللفظ بحسب المقاييس البشرية. نلمح ذلك جيدا في النص التالي. يقول الجرجاني في كتابه (الوساطة): " قال أبو نصر المرزباني: ثلاثة من الشعراء رؤساء؛ شلشل أحدهم، سلسل الثاني، وقلقل الثالث. فالذي شلشل هو الأعشى، وهو من رؤساء شعراء الجاهلية، وهو الذي يقول ():
وقدْ غَدَوْتُ إلى الحانوتِ يَتْبَعُنِي شاوٍ مُشْل شَلول شُلْشُل شُولُ
والذي سلسلَ مسلم بن الوليد، وهو من رؤساء المحدثين، قال ():
سُلَّتْ و سُلَّتْ ثم سُلَّ سَليلها فَاَتَى سَليلُ سَلِيلِها مَسْلُولا
وأما الذي قلقل فالمتنبي إذ يقول ():
فَقَلْقَلْتَ بالهمِّ الذي قَلْقَلَ الحشَا قَلاقِلَ عيسٍ كلهنّ قَلاقِلُ " ().
فهذا الخبر يحمل دلالة أكيدة على مدى التنافر الذي تكرهه العربية من اجتماع الحروف المتماثلة في أبنيتها على نحو يخرج بها عن النمط الجمال للتركيب الكلمي، ومن ثم الجملي. وبنظرة إلى الأبيات المضمنة في النص السابق نلاحظ أولاً تكرار حرف (الشين) بما يثره من الانتشار السمعي المستفاد من صفته وهي (التفشي)، وإن كان اجتماعه في البيت ليس على التماثل الكلي أي المجاورة، فخرج عن حد الاعتدال بهذا التكرار والتماثل. وكذلك الحال في البيت الثاني الذي كرر صوت (السين) الصفيري المهموس، وما يشيعه من أجواء. أما البيت الثالث الذي وظف صوت (القاف) مكرراً حتى وإن كان أنصع حروف العربية، وأثبتها جرساً، وأصفاها في النطق، وأوضحها في المخرج الصوتي، إلا أن ذلك لم يشفع لهذا التماثل والتكرار، فسمجت، وخرجت عن حد الاعتدال، وتنافرت صوتياً.
¥