ولنقارن هذا الصنيع البشري بتوظيفات القرآن الكريم لألفاظ محتوية على هذه الحروف السابقة، لكن بلا قلق أو تنافر صوتي أو ثقل نطقي مثلما نجد في قوله تعالى: ? ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ? ()، فقد تم تكرار حرف (الشين) في الآية في لفظتي (شركاء) و (متشاكسون)، وهما يعبران معاً عن لغة المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران. وقد جمعت كلمة (متشاكسون) نمطاً صوتياً جميلاً من خلال احتوائها على حرفي التفشي والصفير تعاقباً، تخللهما حرف الكاف من وسط الحلق، والواو والنون للمد والترنم، والتأثر بالحالة، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً، حمَّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل، مما أكسبها (أزيزاً) يوحي بتشكل خصام قائم بلغ الذروة.
وكذلك يوظف النص القرآني حرف (السين) بشكل تماثلي وتكراري رائق نلمسه بوضوح في قوله تعال: ? إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ? ()، فأصوات الصفير في الآية تبلغ ذروتها بوضوحها السمعي، ووقعها المميز بين الصوامت والصوائت. وهذه الأحرف ذات جرس صارخ يتضح من سياق الآية الكريمة، ومع تكرارها لا تسْمُج -حاشا لله – بل توحي بالنغم المراد، والهدف المقصود.
والنص الكريم حينما يختار منظومته الأدائية المؤلفة من حروف كلماته فإنها تأتي " خفيفة على السمع، رقيقة في الكلام، أنيقة في الكلمة، لا يصيبها في التأليف القرآني ما يصيبها في التأليف البشري، فكل حرف يصيب موقعه في الكلمة، ويقع موضعه في اللفظ، ويكون من الذوق بمكان، ولا عجب فهو وضع الحكيم الخبير، وتنزيل من الرحمن الرحيم " ().
وقد وردت الحروف المتماثلة في القرآن الكريم على وجهين:
أولهما: التماثل الحرفي في إطار الكلمة الواحدة، وعليه الآيات التالية:
1 - قوله تعالى: ? فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ ? ()، تماثل الكاف مع الكاف بلا فاصل.
2 - قوله تعالى: ? ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ ? ()، تماثل الهاء مع الهاء بلا فاصل.
3 - قوله تعالى: ? قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ? ()، تماثل النون مع النون بلا فاصل.
4 - قوله تعالى: ? وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ? ()، تماثل الزاي مع الزاي بلا فاصل.
5 - قوله تعالى: ? مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ? ()، تماثل الكاف مع الكاف بلا فاصل.
وثانيهما: التماثل الحرفي في كلمتين متتاليتين، وعليه الآيات التالية:
1 - قوله تعالى: ? لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ? ()، بتماثل الحاء مع الحاء بلا فاصل.
2 - قوله تعلى: ? وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ? ()، تماثل الراء مع الراء بلا فاصل.
3 - قوله تعلى: ? ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ? ()، تماثل الهاء مع الهاء بلا فاصل.
4 - قوله تعلى: ? يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً ? ()، تماثل الكاف مع الكاف بلا فاصل.
5 - قوله تعلى: ? شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ? ()، تماثل الراء مع الراء بلا فاصل.
والقرآن الكريم حافل بمثل هذه التماثلات الحرفية في نطاق الكلمة الواحدة، أو في نطاق الكلمتين المتجاورتين، ولا نجد فيه هذه الآيات ما نجده في الكلام البشري من تنافر أو ثقل بسبب التماثل والتكرار.
وتجدر الإشارة إلى موضوع الحروف المتماثلة وما يتعلق بها من أحكام قد بحث في مقام أكثر تفصيلاً وشمولاً عند أهل القراءات والتجويد في باب (الإدغام).
الهوامش:
-• د. أحمد أبو زيد، التناسب البياني في القرآن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1992، 176.
o سورة الحج: الآيات رقم (19 – 21).
o ينظر: الفصل الثاني: التلوينات الصوتية في القرآن الكريم.
o ابن الأثير، المثل السائر، 1/ 158.
o الرماني، النكت في إعجاز القرآن، 96.
o الجاحظ، البيان والتبيين، 1/ 69.
o سورة طه: آية رقم (84).
o ينظر: الرماني، النكت في إعجاز القرآن، 94.
¥