تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما الحديث في آية سورة الجاثية فيدور على المفارقة، إذ الخطاب لأهل الكفر في سياق التقريع والتوبيخ لهم، والتهكم من ظنهم المساواة مع أهل الإيمان، إذ كيف يكون هذا وأهل الكفر قد (اجترحوا) السيئات، فالافتعال هنا طلب وبحث وحرص على هذا الاجتراح، هن قصدية واضحة تميز هذا السعي للإثم. ولذا كان الراغب رائعاً إذ خص الاجتراح بأنه اكتساب الإثم، فهذا هو مناط الاجتراح.

كما أن الجرح في آية سورة الأنعام (عام) يضم اكتساب الخير أو الشر دون تحديد لأنه كسب الجوارح في أثناء السعي بالنهار، أما الاجتراح فهو (خاص) باكتساب السيئات من جانب أهل الكفر والفسوق.

* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? (). فقد وظف القرآن الكريم في هذه الآية فعلين هما (كَسَبَ) ثلاثي صحيح، و (اكْتَسَبَ) خماسي على وزن (افْتَعَلَ)، وكلاهما يعود إلى أصل اشتقاقي واحد هو مادة (كسب). فلم هذا التغاير التوظيفي في الفعلين؟

لنقف أولاً على مدلولات كل منهما. يقول الراغب: " الكسب: ما يتحراه الإنسان مما فيه اجتلاب نفع، وتحصيل حظ، ككسب المال. وقد يستعمل فيما يظن الإنسان أنه يجلب منفعة، ثم اجتلب به مضرة. والكسب يقال فيما أخذه لنفسه ولغيره، ولهذا قد يتعدى إلى مفعولين فيقال: كسبت فلاناً كذا. والاكتساب لا يقال إلا فيما استفدته لنفسك. فكل اكتساب كسب، وليس كل كسب اكتساباً " ().

إذن فالكسب للخير والشر معاً، وللنفس والغير أيضاً، بخلاف الاكتساب فهو في جانب النفس فقط، ولا يتعدى إلى الغير. يقول الإمام الأنصاري (ت 926 هـ): " قوله: ? لَهَا مَا كَسَبَتْ ? أي: في الخير، و ? وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? أي: في الشر. فإن قلت: ما الدليل على أن الأول للخير، والثاني للشر؟ قلت: (اللام) في الأول، و (على) في الثاني، لأنهما يستعملان لذلك عند تقاربهما " ().

فالأنصاري يوجه الدلالة هنا وفقاً لسياق حرف الجر الموظف مع كل فعل، فالكسب للخير لأنه قد تعدى بحرف الجر (اللام)، في حين أن الاكتساب للشر لأنه قد تعدى بحرف الجر (على).

ويتناول ابن أبي الإصبع الآية بالتحليل من جهة ما يستفاد من الزيادة في الفعل. يقول: " كان يمكن أن تأتي اللفظتان بغير زيادة فيقال: (لها ما كسبت وعليها ما كسبت)، وإنما منعَ من ذلك ما يجعل للنظم من العيب، وإغماض المعنى الذي قصد. أما العيب فاستثقال تكرار لفظة (كسب) بغير زيادة، في نظم قربت فيه الثانية من الأولى فسمجَ. وأما الإغماض فلأن المراد الإشارة إلى الفطرة التي فطر الله –سبحانه وتعالى – الناس عليها، فطرة الخير. فالإنسان بتلك الفطرة السابقة في أصل الخلق لا يحسن أن ينسب إليه إلا كسب الحسنات، وما يعمله من السيئان فيعمله لمخالفته الفطرة، فكأنه تكلف من ذلك ما ليس في جبلّته، فوجب زيادة التاء التي للافتعال، فحصلت بزيادته إماطة العيب عن النظم لمخالفة إحدى اللفظتين أختها، والإشارة إلى المعنى المراد " ().

وهذا التحليل الفني الجميل لما تم من زيادة في مبنى الفعل محافظة على النظم، وخلوصاً من النكرار الذي – إن حدث – لصار مسوغاً للتنافر والثقل.

و لفظ (الاكتساب) يُشْعِر الكلفة والمشقة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها على النفس. " والاكتساب فيه اعتمال، والشر تشتهيه النفس، وتنجذب إليه، فكانت أجد في تحصيله بخلاف الخير، ولأن في ذلك إشارة إلى كرامة الله تعالى وتفضله على الخلق حيث أثابهم على فعل الخير من غير جد واعتمال، ولم يؤاخذهم على فعل الشر إلا بالجد والاعتمال " ().

فهو هنا يجعل النية في إصدار الفعل محكماً لهذا الفعل، ويربط ذلك بما قرره الله تعالى من ثواب أو عقاب على هذا الفعل، حسب ما قررته النية من إرادة الخير أو الشر.

إننا نلاحظ هنا أن التنويع الذي حدث في التعبير بصيغ الأفعال كان مقصده فتح باب الدلالة على مصراعيه، وكسر أفق التوقعات لهذا الأسلوب بتوظيف ما يخالف الظن في السياق إرادة لمقاصد جمالية ودلالية هي المبتغى من مثل هذا التوظيف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير