تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ? (). فقد وظف القرآن الكريم في هذه الآية فعلين هما (اسطاعوا) و (استطاعوا)، وكلاهما يعود إلى أصل اشتقاقي واحد هو مادة (طَوَعَ). يقول الراغب: " الاستطاعة: استفالة من الطوْع، وذلك وجود ما يصير به الفعل متأتياً، وهي ع المحققين اسم للمعاني التي يتمكن بها الإنسان مما يريده من إحداث الفعل. وهي أربعة أشياء: بنية مخصوصة للفاعل، وتصور للفعل، ومادة قابلة لتأثيره، وآلة إن كان الفعل آلياً كالكتابة " ().

وقد توارد أهل التفسير والبلاغة على أن حذف تاء الافتعال في (اسطاعوا) إنما هو للتخفيف، ذلك لأن (التاء) قريبة في المخرج الصوتي من (الطاء) ().

أما الخطيب الإسكافي (ت 420 هـ) فيرى أن " الصيغة الثانية تعدّت إلى اسم وهو قوله ?: ? نَقْباً ?، فخفّفَ متعلقها، فاحتملت أن يتم لفظها. أما الأولى فإنها تعلق مكان مفعولها بأن والفعل بعدها، وهي أربعة أشياء؛ (أن والفعل والفاعل والمفعول) الذي هو الهاء. فثقل لفظ (استطاعوا) وكان يجوز تخفيفه حيث لا يقارنه ما يزيده ثقلاً، فلما اجتمع الثقيلان، واحتملت الأولى التخفيف، ألزم الأول دون الثاني الذي حفّ متعلقه واحتمل " ().

ويوجه ابن الزبير نظرنا إلى لفتة سياقية يفسر من خلالها هذا التغاير في إيراد صيغتين لفعل واحد في الآية الكريمة إذ يقول: " لا شك أن الظهور عليه أيسر من النقب، والنقب اشق عليهم وأثقل، فجيء بالفعل خفيفاً مع الأخف، وجيء به مستوفي مع الأثقل فتناسب، ولو قدر بالعكس لما تناسب " ().

وهذا يتسق مع حكم العقل والمنطق، إذ الصعود على السدّ المصنوع من رماد الجبل وزبر الحديد والنحاس المذاب عليهما أيسر، ويتطلب زمناً أقصر من إحداث نقب في جسد مثل هذا السد المنيع. فناسب بالحذف من الفعل الأول ليجانس الحدث والزمن المستغرق لإنجازه. وذلك بخلاف الحدث الثاني لطول الزمن المستغرق في إنجازه، ومشقة هذا الإنجاز، مما ناسب معه الإتيان بالفعل في هيئته الفعلية الطويلة.

على أننا يجب أن نذكر هنا عدم استحسان د. حسن طبل لهذه التأويلات في تفسير سبب تغاير الصيغتين للفعل، وكيف أن هذه التفسيرات نحوي تحيّف واضح للأسرار اللغوية والدلالية في هذا السياق. كما أن الصيغتين تحلان في ذاتهما لون من الإعجاز يتمثل في ورود " كل منهما في سياق النفي أي: العجز، غير أن العجز في (وما استطاعو ا) هو العجز عن الشيء بعد التعلق به، وتكلف محاولته ن وبذل الجهد في سبيل تحقيقه. أما العجز في (فما اسطاعوا) فهو العجز المؤيس الذي يئد في النفس بواعث الأمل في الحصول على المراد، ويصرفها كلية عن التعلق به، أو بذل أي جهد في سبيل تحقيقه " ().

وهذا الذي ذهب إليه د. طبل تأويل جميل يتسق أيضاً مع هيئة السدّ الذي هو غاية في الارتفاع لأنه بين جبلين، وغاية في المنعة والملاسة لقوة ومتانة مبناه، فبذلك يكون هناك يأس من محاولة تسلقه، ولذا جاء العجز عن الفعل مستفاد من نفي الاستطاعة بقوله (فما اسطاعوا) مناسباً لهذا العجز. في حين جاء العجز الآخر قابلاً للمحاولة والتحقق، فعبر في جانبه بالفعل كاملاً مع نفيه دلالة على هذا العجز فقال (وما استطاعوا).

* ومن هذا أيضاً توظيف القرآن الكريم لصيغتي (فَعَّلَ) و (أَفْعَلَ) من أصل اشتقاقي واحد، وبدلالات متنوعة لكل منهما مثلما نلمس في صيغ:

1 - (كَرَّمَ) و (أَكْرَمَ) في قوله تعالى: ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ? ()، وقوله تعالى: ? فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ? ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير