الأول: في وصف الله تعالى للخليل إبراهيم ? بصيغة اسم الفاعل في قوله تعالى: ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?.
والثاني: في وصف الله تعالى لنوح ? بصيغة المبالغة في قوله تعالى ? ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ?. فلم تمت هذه المخالفة التعبيرية بالصيغ الاشتقاقية في سياق وصف اثنين من أنبياء الله لهما من المنزلة العليا ما لهما، كما أنهما من أولى العزم من الرسل؟
ونلاحظ بداية أن صيغة اسم الفاعل عبارة عن وصف مأخوذ من فعل مضارع مبني للمعلوم للدلالة على من قام بالفعل. ويؤخذ من المضارع أساساً لأنه " وصف يدل على حدث وزمن، ودلالته على الزمن ترتبط بالحال والمستقبل، وهذا هو زمن المضارع، فكلاهما يدل على الاستمرار. ويكون المضارع المأخوذ منه مبنياً للفاعل لأن المأخوذ منه يكون وصفاً للفاعل أيضاً " ().
واسم الفاعل في حقيقة أمره نعت كما يقول الميداني (ت 518 هـ): " كل فعل ماضيه على (فَعَلَ) بفتح العين فإن النعت منه على فاعل نحو: ناصِر، وضارِب " (). وهذا بالتأكيد لأن اسم الفاعل مأخوذ من دلالة الفعل على الاسم القائم بهذا الفعل، ووصفه بأنه نعت فيه كثير من التخصيص، لأن النعت نوع من أنواع الوصف العام، لأنه يشمل في طياته اسم الفاعل وأخواته من المشتقات.
كما أن الكوفيين يسمون اسم الفاعل بالفعل الدائم، ويجعلونه قسماً ثالثاً من أقسام الفعل، حيث رفضوا فعل الأمر وجعلوه مقتطعاً من المضارع. ويرى د. مهدي المخزومي أن: " تقسيم الفعل إلى ماض ومضارع ودائم، تقسيم يؤيده الاستعمال، وتؤيده النصوص اللغوية التي صدر عنها الكوفيون في مقالتهم بالفعل الدائم " ().
وغنما سُميَ اسم الفاعل بالفعل الدائم عند نحاة الكوفة مراعاة لإيحاءاته الدلالية التي يفرضها سياقه التوظيفي، فهو دال على وصف الفاعل بالحدث. وهذه الدلالة عي المعنى الصرفي لاسم الفاعل بصفة عامة، والوظيفة الصرفية المنوطة به كذلك على سبيل الحدوث والتجدد في حالة دلالته على الحال أو الاستقبال. أما إذا دلَّ على الماضي فهو مثل الأسماء يكون مضافاً مثلما هو قوله تعالى: ? كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ? ()، بإضافة اسم الفاعل (ذائقة) إلى كلمة (الموت). وتعليل ذلك أن الزمن الماضي قد تم حدوثه ووقع فأصبح أمراً مؤكداً وثابتاً كثبات دلالة الاسمية في الأسماء ().
أما صيغة المبالغة على وزن (فَعُول)، فالأصل فيها أنها اسم فاعل حُوِّلَ إلى صيغة أخرى هي صيغة المبالغة بقصد التأكيد والمبالغة والتكثير في القيام بالفعل. يقول أبو حيان: " المبالغة بأحد أمرين: إما بالنسبة لتكرير وقوع الوصف. وإما بالنسبة إلى تكثير المتعلق " (). فصيغة المبالغة تدل على كثرة المعنى كماً وكيفاً. ويرى د. أحمد مختار عمر أن وزن (فَعُول) يتميز " بنوع من المبالغة ناتج عن كثرة هذا الوزن للدلالة على اسم الشيء الذي يُفْعَل به نحو الوَضُوء، والوَقُود، والثَقُوب. فكأن استخدامه في المبالغة باعتبار أنه آلة معدة لإيقاع الفعل " ().
ونلمس عند أبي هلال العسكري نوعاً من الرقي التحليلي عند وصفه لتدرجات المبالغة في صيغ المبالغة، وقوة عمل كل منها. يقول العسكري: " إذا كان الرجل قوياً على الفعل قيل: (فَعُول) مثل صَبُور، وشَكُور. وإذا فعل الفعل وقتاً بعد وقت قيل: (فَعّال) مثل عَلاَّم، وصَبَّار. وإذا كان عادة له قيل: (مِفْعَال) مثل مِعْوَان، و مِعْطَاء. ومن لا يتحقق المعاني يظن أن ذلك كله يُفيد المبالغة فقط، وليس الأمر كذلك، بل هي مع إفادتها المبالغة تفيد المعاني التي ذكرناها " (). وهذا التحليل الدقيق للعسكري يوقفنا على معنى صيغة (فَعُول) التي تقتضي القدرة على الفعل، والقوة في أدائه.
ويمكننا مناظرة الآيتين في ضوء هذه التفصيلات اللغوية للوقوف على السياق العدولي فيهما من ناحية تغاير الصيغ الاشتقاقية:
¥