أ- يقول تعالى: ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?.
ب - يقول تعالى: ? ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ?.
فالمناظرة إذن بين (شاكر) و (شكور)، بين (فاعِل) و (فَعُول)، رغم أن الأصل الاشتقاقي لهما واحد وهو مادة (شَكَرَ). ويلاحظ في آية سورة النحل أن اسم الفاعل (شاكر) جاء في سياق تعداد صفات الخليل إبراهيم ? والثناء عليه من الله سبحانه وتعالى، فهو (أمة وحده، وقانت، وحنيف، وغير مشرك، وشاكر)، وكلها صفات مدحية غاية في الروعة والجمال. يقول البيضاوي في تعليقه على التعبير بصيغة (شاكر) في هذه الآية: " ذكر بلفظ القلة للتنبيه على أنه كان لا يخل بشكر النعم القليلة فكيف بالكثيرة " ().
فالتعبير بهذه الصيغة أفاد (الشكر على القليل)، وهذا المعنى مستفاد من التعبير كلمة (أنْعُم) التي هي جمع قلة، وما حققه هذا الجمع من مقاصد تتمثل في:
* المبالغة في وصف الخليل بشكر ربه ومداومته عليه، لكون الشاكر على قليل النعم أكثر شكراً على الكثير منها.
* التناسب البديع في سياق المقابلة بين صنيع إبراهيم ? من الشكر، بصنيع أهل الكفر من النكران لنعم الله. لذا كانت المكافأة الإلهية لهذا الشكر القليل: ? اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?، فما بالنا بثواب الشكر الكثير!
إذن الوصف باسم الفاعل هنا وصف حال لا وصف ذات، أي وصف حال خليل الرحمن ? حال تلقيه النعم، لا حاله على الدوام. ولذا فإن صفة (الشكر) متأصلة فيه، لكن السياق هنا حتم التعبير باسم الفاعل (شاكر) مناسبة لما بعده من التعبير بجمع القلة، فناسب القليل بالقليل.
أما التعبير بصيغة المبالغة (شَكُور) في آية سورة الإسراء في وصف نبي الله نوح ?، فذلك في سياق إيضاح حال هذا النبي الكريم مع المولى عز وجل. ويقول الإمام ابن جزي (ت 741 هـ): " شكور أي كثير الشكر، كان يحمد الله على كل حال " (). و يقول الإمام ابن كثير (ت 774 هـ): " ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله، فلهذا سمي عبداً شكوراً " ().
فهذا الوصف بصيغة المبالغة، وصف ذات لا وصف حال.
إن الفيصل هنا في التفريق بين التعبير بكل صيغة إنما معقده السياق الذي وردت فيه كل صيغة، وما يقتضيه هذا السياق من وصل دلالي وجمالي بالسوابق واللواحق على الصيغة. فالثابت أن كل الأنبياء أهل شكر على نعم الله، وكلهم (شَكُور). ولذا نرى المولى ? يعبر عن فضيلة الشكر وعلو مقامها بتوظيف صيغة المبالغة في قوله: ? اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ? ()، فهذا حال العباد في مقام الشكر، قليل منهم فقط الشكور.
ولعل أجمل ما ورد في الوصف بصيغة اسم الفاعل (شاكر) ما ورد في وصف الإنسان في قوله تعالى: ? إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ? ()، فقد عبّر في جانب النعمة بصيغة اسم الفاعل (شاكر) الدالة على قلة من يؤديها، وعبّر في جانب كفران النعم وجحودها بصيغة المبالغة من مادة (كَفَرَ) وهي (كَفُور) للدلالة على كثرة هذه الفئة. فناسب بالقليل القليل، وبالكثير المبالغة. وهذا هو جوهر التعبير في صيغتي اسم الفاعل والمبالغة.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ? ()، وقوله تعالى: ? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ? ().
فقد عبّر في الآيتين بصيغتين اشتقاقيتين من أصل واحد هما؛ الصفة المشبهة باسم الفاعل (زهوق) في آية سورة الإسراء، وصيغة اسم الفاعل (زاهق) في آية سورة الأنبياء، فلم هذا التنويع في التعبير بصيغة ذات الأصل الواحد؟
¥