وأهل البلاغة على تقرير معنى المبالغة للتعبير بصيغة الصفة المشبهة باسم الفاعل كما الحال في التعبير بصيغة المبالغة، وأيضاً على معنى التكثير. ففي سياق آية سورة الأنبياء يدور المعنى حول انتصار الحق على الباطل، وهزيمة هذا الباطل أمام نور الحق. وهذا مستفاد من توظيف الفعل (نقْذِف) فكأننا نشاهد الحق قذيفة مندفعة سريعة تصل إلى قلب الباطل فتدمغه (تسحقه). يقول الراغب: " يدمغه: أي يكسر دماغه. وحجة دامغة كذلك. ويقال للطَلْعَة تخرج من أصل النخلة فتفسده إذا لم تقطع: دامغة، وللحديدة التي تشد على آخر الرحل: دامغة. وكل ذلك استعارة من الدمغ الذي هو كسر الدماغ " ().
فالمعنى هنا على تصوير قوة الحق، وإزهاقه للباطل بمجرد تلاقيهما، إذ يفيد التعبير ب (إذا) الفجائية إلى سرعة الاندحار والانكسار أمام للحق. ولذا لا ضرورة هنا لاستعمال الصفة المشبهة، إذ الأمر قد تم بسرعة وقوة في آن.
أما سياق الآية في سورة الإسراء فيدل على صورة تعبيرية لها مقدمات مفردة هي: (جاء الحق ــــــ زهق الباطل)، وهذه نتيجة حتمية للمعطى الإلهي. لكن الأهم هنا ليست هذه المقدمات بل الناتج الإلهي، وهو وصف الباطل بصفة دائمة ومتكررة، وهي لهذا التكرار توصف بالصفة المشبهة (زهوق)، إذ الناتج النهائي المتمثل في قوله تعالى: ? إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ?، فهذه قاعدة دائمة، وسنة مطردة. الباطل زهوق مضمحل لا قوة له أمام الحق، الباطل وإن كبر واستفحل أمره في فترة ما، فسرعان ما يضمحل ويزول.
وهذا المعنى لا يناسبه إلا توظيف الصفة المشبهة باسم الفاعل التي تشير إلى وصف دائم وملازم للباطل، لا يكفي فيه مجرد التعبير بصيغة اسم الفاعل. وهنا لفتة جمالية مفادها: أن مادة (زهق) سبق توظيفها في سياق الآية بقوله تعالى: ? وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ?، فالباطل هنا قد زهق، فهو الفاعل هنا أي هو (الزاهق)، ولذا لو كرر ثانية فقال في غير القرآن (إن الباطل كان زاهقاً) لما أفاد معنى جديداً لأنه كرر. لكن العدول إلى التعبير بالصفة المشبهة أفاد معنى جديداً، ودلالة جمالية في سياقات الآية ().
هكذا يكون منهج النص القرآني في توظيفه للصيغ الاشتقاقية ذات الأصل اللغوي الواحد، وما يتبع هذا التوظيف من إثراءات صوتية ملحقة بالدلالات الجمالية، والمقاصد النصية التي تتضمنها هذه السياقات.
ثالثاً: تغاير صيغ المصادر الراجعة إلى أصل اشتقاقي واحد.
المصدر هو الاسم الدال على الحدث مجرداً من الحدث والشخص والزمان والمكان، وهو عند البصريين اصل المشتقات. واختلف القدماء حول المصدر والفعل أيهما اصل وأيهما فرع. فقد ذهب البصريون إلى أن المصدر أصل الفعل، وذهب الكوفيون إلى أن الفعل هو الأصل، والمصدر فرع عليه (). والمصدر يختلف عن الفعل في كونه اسماً، ويتفق معه في الدلالة على الحدث، مع زيادة الفعل على المصدر في اقترانه بالزمن الذي هو جزء منه.
وقد تتعدد صيغ المصدر لأصل لغوي واحد دلالة على ثراء اللغة وعبقريتها، وتنوع موادها. ومن أمثلة ذلك ما جاء في تعليق أبي عبيدة (ت 210 هـ) على المصدر (أَمَنَة) في قوله تعالى: ? إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ ? ()، بقوله: " وهي مصدر بمنزلة أَمَنْتُ أَمَنَة وأَمَاناً وأَمْناً، كلهن سواء " ().
فهذا التعليق بقوله: (وكلهن سواء) دلالة على أنه وقف على الصيغة في مظهرها اللغوي فقط، أي أنه اكتفى بوصف الظاهرة دون الإمعان في تحليها جمالياً.
كذلك نجد الأخفش (ت 215 هـ) يقف أمام كلمة (المحيض) في قوله تعالى: ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ? ()، فيقول: " وهو الحيض. وإنما أكثر الكلام في المصدر إذا بُنِيَ هكذا أن يراد به (المَفْعَل) نحو قولك: (ما في بُرَك مَكَال) أي: كَيْل. وقد قيلت الأخرى أي قيل: مَكِيل " ().
فنظر إلى الأمر من ناحية تعداد الأوزان الصرفية فقط دون أن يحاول تفسير لم ورد مثل هذا التعدد؟
¥