تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* ومن ذلك قوله تعالى: ? مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? ()، إذ تم العدول عن اللفظ الملائم للفعل (يضلل) وهو لفظ (الضالون) إلى مجاور دلالي هو لفظ (الخاسرون). يقول الزمخشري: " ? فَهُوَ الْمُهْتَدِي ? حمْل على اللفظ، و ? فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ? حمْل على المعنى " ().

فهذا حُمِلَ على اللفظ إذ قال (يهدي) فجاء اللفظ مناسباً لمعنى الفعل أي (المهتَدي). أما اللفظ الآخر فجاء مناسباً للمعنى لا اللفظ لما قال (يضلل)، فناسبه بالمجاور المعنوي للضلال وهي كلمة (الخاسرون).

أما البيضاوي فينظر من زاوية التعبير بالمفرد في جانب الهداية، والتعبير بالجمع في جانب الضلال، وذلك مناسبة لسياقات سابقة في السورة. يقول: " هذا تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإفراد في الأول، والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين. والاقتصار عمن هاده الله (بالمهتدي) تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصل له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها " ().

فقد جعل هنا أهل الهداية فرداً واحداً لاتحاد طريقهم الإيماني، لأن صراط الله المستقيم واحد، فناسب ذلك الإفراد في جانب الهداية، وناسب بالجمع في جانب الإضلال والخسران لأنه متشعب الطرق، مختلف السبل. يقول أبو حيان: " ناسب الإفراد هناك لأن المهتدي قليل، وناسب الجمع في الثانية لأن الضالين كثير " ().

غير أن هؤلاء الأعلام عبروا بالكناية فقد عن سبب العدول عن لفظة (الضالون) إلى لفظة (الخاسرون)، فدار حديثهم عن الثواب العظيم لأهل الهداية، وما ينتظرهم من ثواب ونعيم مقيم، فيهم هنا على سبيل التضمين والكناية ما ينتظر الفئة الضالة من عقاب وعذاب أليم. وباستقراء الأمر نجد أن المولى - عز وجل – يجعل التعبير في الآية بلفظ (الخاسرون) وتوكيده بالضمير (هم) بعد اسم الإشارة (أولئك)، كل ذلك يتم في سياق التعبير بالمآل لا الوصف للحال. فلو كان المراد الوصف للحال لجاء اللفظ مناسباً للفعل (يضلل) فقال (هم الضالون)، لكن السياق المقامي يقتضي تبيان المآل والعاقبة، فلذا جاء توظيف لفظ (الخاسرون) مناسباً لسياق التعبير بالفعل (يضلل) مسنداً إلى لفظ الجلالة (الله)، غذ كيف يستقيم أن يضل الله أحداً فيكون (ضالاً) فقط، ثم يقبل المنطق العقلي (تخيّلاً) أنه قد يهتدي فيما بعد. لكن الأمر عندما يكون من الله فلا هداية مطلقاً فقد أضله الله فخسر وخسر، ولذا عبر بالاسم الثابت الدلالة (الخاسرون)، فالأمر هنا على ثبوت الحكم قطعياً لا ظنياً.

وهكذا فإن العدول عن الملائم هنا إلى المجاور كان أكثر مناسبة للمعنى، وأكثر إثراءً للسياق النصي، وأكثر تعضيداً للجمالية الدلالية المبنية على التوازي والتوازن معاً.

ج – العدول عن الاسمية إلى الفعلية والعكس:

يوظف القرآن بنية الكلمة في حالات الاسمية والفعلية بما يخدم سياق الآيات، ويحفظ رونق التعبير. إذ من المعلوم أن التعبير بالفعل يدل على التجدد والاستمرار، في حين أن التعبير بالاسم يقتضي التأكيد على معنى الثبات والدوام. يقول الإمام عبد القاهر: " إن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أ يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. وأما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد شيء " ().

وعلى هذا التأسيس البلاغي يكون طرح الأمثلة القرآنية التي وظفها النص القرآني في سياق عدول يتراوح توظيفياً بين الاسمية والفعلية لبعض الكلمات.

* فمن ذلك قوله تعالى: ? إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ? (). فقد وظف في الآية الفعل (يُخْرِج) مع حالة الخلق، ووظف الاسم بصيغة اسم الفاعل (مُخْرِج) مع الإفناء. فلم هذا العدول التوظيفي لبنية لغوية واحدة تعود إلى مادة (خرج)، تنوعت هنا بين الاسمية والفعلية؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير