تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بدايةً: المعنى في الآية القرآنية يدور حول فكرة تسلية الرسول ? عن عدم متابعة أهل الكتاب له، وعدم الإيمان به، والإخبار ببراءته عليه ? من اتباع قبلة هؤلاء اليهود (). وعلى هذا المعنى يمكننا التأسيس والتفسير لهذا العدول. فالمعنى على إرادة التجدد لحدوث الفعل في جانب اليهود بأنهم لم يتّبعوا ولن يتّبعوا الرسول ? في هذا الوقت، لكن إرادة التجدد يمكن أن تشمل هؤلاء اليهود فيؤمنوا فيما بعد. فالأمر هنا مستفاد من التعبير بالفعلية في جانب اليهود، وإمكانية تغيّر هذا الموقف فيما بعد.

أما التعبير بالاسمية بكلمة (تابع) اسم الفاعل في جانب الرسول ?، فالدلالة فيه على الثبات في الاستمرارية لهذه الصفة، فهي لن تتغير لاستحالة أن يُغَيِّر المصطفى ? دينه، ويتبع دين اليهود، فهذا مما لا سبيل إليه على الإطلاق. فناسب التعبير بالاسمية هنا في هذا الموقف، وجاء العدول ملائماً للسياق النصي لهذه الآية.

* والقرآن الكريم يوظف الصيغ الاسمية في سياقات قرآنية متعددة رغم دلالتها على حدث لم يحدث بعد، يعني أنه متجدد ومستمر في الحدوث، وهذا أيضاً من العدول التوظيفي إذ يجعل الأمر الذي لم يحدث بعد بمنزلة الحادث فعلاً، والمستقر الثابت في حدوثه. فمن ذلك قوله تعالى: ? وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? (). فالأمر في الآية أنه لم يجعل هذا الخليفة وقت هذا الكلام، فكيف يُعَبِّر بالاسم (جاعل) للدلالة على سياق حدث متجدد حتى حدوثه؟ وهذا يتم لأن الأمر على صفة الحدوث المؤكَّد، لذا ورد بصيغة اسم الفاعل (جاعِل) دون الفعل (سأَجْعَل)، فالأمر حادث لا محالة، فكأنه تمّ واستقر وثَبَت.

ويندرج في الإطار ذاته قوله تعالى: ? وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ? (). إذ عَدَلَ عن التعبير بصيغة الفعل (سيغرقون) إلى التعبير بصيغة اسم المفعول (مُغْرَقون) في وصف حدث لم يحدث بعد، لكنه صادر عن الله سبحانه وتعالى، فكأنه تمّ واستقر.

وكذلك قوله تعالى: ? وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ? (). إذ عَدَلَ عن التعبير بصيغة الفعل (سنهلك) إلى التعبير بصيغة اسم الفاعل للجمع (مهلِكُو) في وصف حدث لم يحدث بعد، لكنه معنى ثبوت الحدث، فكأنه تمّ واستقر وانتهى.

وهذا التوظيف العدولي للصيغ يُعَدّ من تفردات النص القرآني في توظيف الكلمة القرآنية في إطارات وتشكيلات لغوية فريدة، وما نتج عنها من جماليات إذا ما وظفت في السياق القرآني.

* أما العدول عن الاسمية إلى الفعلية فقد تلمسناه في النص القرآني في قوله تعالى: ? وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ? (). فقد عدل عن التعبير بصيغة الاسم (مأكلهم) إلى الصيغة الفعلية (يَأْكُلون)، وهذا العدول على معنى التجدد والاستمرار في الحدث وهو (الأكل)، وذلك أن هذه الأنعام خُلِقَت أولاً من أجل مهمة محددة وهي (توفير الراحلة)، ثم تأتي مهمة كونها طعاماً وزاداً لهم ثانية لا أولى ().

ولذا فإنه لمّا عبّر بالاسم (رَكُوب) إنما أراد ثبات هذه الصفة ودوامها / فالأنعام خُلِقَت من أجل هذا الغرض أولاً، ولذا فإن الأمر يقتضي هنا التأكيد على ثبات واستقرار هذه الصفة. أما التعبير بالفعل في (يأكلون) إفادة للتجدد والاستمرار في هذا الفعل، ولو عبَّر بالاسمية فيه فقال - في غير القرآن – (مأكلهم) لاستلزم ذلك أن الأنعام جميعها بلا استثناء أهل للمأكَل، وهذا مما تنقضه العادة، ويكذبه الواقع. ولذا فإن جمالية التعبير بالفعلية هنا ملمَح ذكي في هذا الانتقاء للمفردة، وتأكيد فنية الاختيار والانتقاء لما ي} كَل من هذه الأنعام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير