تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* ومن هذا أيضاً قوله تعالى: ? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ? (). فقد تمّ العدول عن التعبير بالاسمية إلى الفعلية في كلمة (يَحِلُّون). وهذا العدول الذي تم كان سياق - في غير القرآن - (لا هنّ حلُ لهم ولا هم حلُّ لهنّ، فلمَ تم هذا العدول؟

فالآية تدور على معنى دلالي واحد وهو الحديث عن المؤمنات من أهل مكة اللائي هاجرن دون أزواجهنّ الكفرة، وكيفية التأكد من صدق إيمانهنّ، والأمر بعدم إرجاعهنّ لأزواجهنّ الكفار. يقول الزمخشري: " فلا تردوهنّ إلى أزواجهنّ المشركين، لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك " ().

فالتعبير هنا منقسم قسمين هما:

الأول: (لا هنّ حلّ لهم)، أي أن هؤلاء المؤمنات أصبحن في حرمة على أزواجهنّ المشركين، لأنه لا يجوز لمؤمنة أن تكون زوجة لمشرك بعد إسلامها. فعبّرَ بالصيغة الاسمية (حلّ) تأكيداً على هذا المعنى، وتثبيتاً لهذه الصفة التي لا يمكن أن يُغَيِّرها أي شيء لأنها من أحكام الإسلام.

والقسم الثاني: (لا هم يحلون لهنّ) أي أن هؤلاء المشركين انتفت عنهم صفة الزوجية من هؤلاء المسلمات بإسلامهنّ. ولكن الرحمة الإلهية عَدَلَت عن التعبير بالاسمية في كلمة (حل) إلى التعبير بالفعلية لإمكانية أن يُدرِك هؤلاء المشركون الإسلام فيعودون إلى أزواجهم مرة أخرى. فأفاد التعبير بالفعلية هنا على معنى الرحمة في التشريع، وفتح الباب أما هؤلاء لتجديد الفعل بالإسلام، واسترجاع الحلّة مرة أخرى. ولو عبّر بالصيغة الاسمية لامتنعت عودة هؤلاء الأزواج إلى نسائهم المؤمنات، وذلك بإفادة التعبير بالاسم معنى الثبات والاستقرار، وهذا ما لم يتم.

هكذا يكون النسق التعبيري في القرآن الكريم حين يتعامل مع العدول بين صيغ الكلمة في اسميتها وفعليتها رعاية لمقاصد جمالية، ومرادات سياقية في هذه الآيات.

د – العدول عن توظيف المفردة إلى توظيف التركيب والعكس:

من فرائد التعبير في النص القرآني في إطار السياق العدولي، تبني القرآن الكريم لفنية العدول عن التعبير بالكلمة المفردة إلى التعبير بالتركيب، وعن التعبير بالتركيب إلى التعبير بالكلمة المفردة، وذلك في إطار تبادلي فريد.

* فمن ذلك قوله تعالى: ? اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ? (). فالتوازن الإيقاعي كان يستلزم أن يكون التعبير - في غير القرآن -: (جعل لكم الليل لتسكنوا والنهار لتبصروا فيه). لكن تم العدول عن التعبير بالتركيب (لتبصروا فيه) إلى التعبير بكلمة مفردة هي (مبصراً)، فلمَ تمّ هذا العدول التعبيري مع أن الاستعمال الحقيقي والواقعي للغة يقتضي أن النهار مما يُبْصَرُ فيه وليس مما يُبْصِر؟

والأمر في الآية الكريمة على نهج الجمع بين الحقيقة والمجاز في حيّز دلالي واحد، ولو جعلهما بصورة تعبيرية واحدة أي بصيغة (التركيب) لفاتت المزية الفنية. فلو عبّر بالاسمية في جانب الليل تحقيقاً لمبدأ توازي الجمل إيقاعياً فقال - في غير القرآن -: (هو الذي جعل الليل ساكناً) لانتفت الدلالة على نعمة الله على الخلق من ناحية، ولأصبح موقع (لكم) على الزيادة، كما أن المجازية هنا تنتفي لأن الليل يصح أن يُوصَف بالسكون فنقول: (ليل ساكن). فالعدول إلى الصيغة الاسمية في جانب الليل - لو تمّ – لما كلن له أي فائدة دلالية أو قيمة فنية جمالية، أو تذكير العباد بما أنعم الله عليهم بأن جعل لهم الليل ليسكنوا فيه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير