تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتحقيقاً للفنية الدلالية أيضاً عدل في جانب النهار عن التعبير بالتركيب الجملي (لتبصروا فيه) إلى التعبير بالكلمة المفردة (مُبْصِراً)، فجمع بين الحقيقة والمجاز، ذلك أن النهار لا يُبْصِر هو، بل يُبْصَر فيه ز فدلّ على المقصد الأهم وهو الدلالة على نعمة الله على عباده. كما أنه حقق الجمالية الفنية في التعبير بالجمع بين الحقيقة والمجاز. ولم تم إعمال مبدأ توازن الجمل وتوازنها لاختل هذا النظم الفريد، إذ كيف يكون شكل التعبير لو قلنا - في غير القرآن: (الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه)، أو قلنا: (الليل ساكناً والنهار مبصراً)، فلو تم هذا العدول لفاتت الدلالة على النعمة، ولانتفى القصد الجمالي بتوظيف المجاز في الآية ().

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? (). فقد عدل في الآية عن التعبير بالمفردة (يهديه) إلى التعبير بالتركيب الجملي (يجعله على صراط مستقيم)، فكيف يفسَّر هذا العدول؟

المعنى في الآية الكريمة يدور على ذمّ أهل الجهل المعاندين لدعوة الهداية، والمكذبين للرسالة، وكيف أن الله وحده بيده مقاليد الأمور في الهداية والإضلال (). يقول أبو السعود (ت 951 هـ): " (مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ) تحقيق للحق، وتقرير لما سبق ممن حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلاً. فمن مبتدأ خبره ما بدعه، ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة من وقوعها شرطاً، وكونها مفعول مضمن الجزاء، وانتفاء الغرابة في تعلقها به، أي: من يشأ الله إضلاله، أي يخلق فيه الضلال ... وقس عليه قوله تعالى: (وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، لا يضلّ من ذهب إليه، ولا يزل من ثبت قدمه عليه " ().

والتوازي الإيقاعي الحادث في الآية بين فعلي الله ? في جانبي الهداية والإضلال يمكن تمثيله بالشكل التالي:

هداية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ خسران

يجعله على صراط مستقيم ++++++++


يضلله
فالفاعل واحد هو ?، لكن موضوع الفعل متنوع:
قالفعل الأول (يُضْلِله): من يشأ الله يُضْلله.
والفعل الثاني (يهديه): من يشأ الله يجعله على صراط مستقيم.
والمعنى على تقدير فعل قبل فعل الجزاء، فيصير شكل الجملتين - في غير القرآن – كما يلي:
- من يشأ الله أن يُضلّه (يُضلله) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ نتيجة فورية (آنية).
- من يشأ الله أن يهديه (يجعله على صراط مستقيم) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ (بيان الطرق).
فالجملة الأولى تضمنت التعبير بكلمة فعلية هي (يضلله) على معنى تجدد الفعل والحدث، لا على الحكم القطعي. والجملة الثانية عدلت إلى اصطفاء التركيب (يجعله على صراط مستقيم) لمناظرة ما قبلها في الحكم، ذلك لأن الهداية أمر نهائي لا بد من سلوك الطريق إليها، ولذا بين المولى ? هذا الطريق لمن أراد هدايته بأن يهديه فيجعله على صراط مستقيم. ولعل لنا من قوله تعالى: ? اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ? () شاهد ودليل على هذا المعنى. يقول السمرقندي (ت 396 هـ): " (من يشأ الله يُضْلله) يعني يخذله فيموت على الكفر، (و من يشأ الله يجعله على صراط مستقيم) يعني يستنقذه من الكفر فيرفقه للإسلام " (). وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من تحليل للعدول في الآية.
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ? (). فقد عدل عن التعبير بالتركيب الجملي المحقق لبنية التوازن الإيقاعي في الآية وهو (الذين كذبوا) إلى التعبير بكلمة مفردة دالة على معنى هذا التركيب وهي (الكاذبين). فما دلالة هذا العدول؟
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير