تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والمعنى في الآية الكريمة على معاتبة الرسول? في إذنه لهؤلاء المرتابين في إيمانهم لمّا أرادوا التخلف عن الجهاد في سبيل الله. يقول ابن كثير: " قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله ? فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. ولهذا قال تعالى: ?حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ ? أي: في إبداء الأعذار " ().

ومن جميل التأويل ما لمحه أبو السعود في الآية بقوله: " وتغيير الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين، وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذباً حادثاً بأمر خاص، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة، ناشئ عن رسوخهم في الكذب " ().

وهذا التحليل الدقيق للإمام أبي السعود يصيب الهدف ويربو على ذلك، فقد لمح في التعبير بالصيغة الفعلية (صدقوا) تجدداً حادثاً لهذا الفعل، وإن كان هذا الصدق منظور إليه بحذر. وهذا واضح من سياق الآية؛ إذ عبّر قبل هذا الفعل بفعل آخر اشد في التحري هو (يتَبَيَّن)، وليس التبيّن هنا هو صدق العذر أو كذبه، بل مدار الأمر على تبيّن مدلول الخبر عموماً لا الخبر ذاته.

أما التعبير بالكلمة المفردة (الكاذبين) بعد العدول عن التعبير بالتركيب الجملي (الذين كذبوا)، فقد ورد في سياق الذين كذبوا في أعذارهم، فذلك من باب التأكيد على هذه الصفة الثابتة فيهم الملازمة لهم؛ وهي صفة الكذب. فجاء بالكلمة المفردة (اسم الفاعل للجمع) تأكيداً على هذه الصفة الخبيثة، ولذا جاء بالفعل (تعلم) أي: المعرفة اليقينية بهذه الفئة، بخلاف الفرقة الأولى إذ قال في جانبها (يتبيّن)، حفاظاً على هذه الدلالة.

هـ - العدول في توظيف الصيغ الاشتقاقية:

من أشكال التوظيف القرآني لألوان العدول ما نلمسه في توظيف الصيغ الاشتقاقية كاسم الفاعل واسم المفعول وصيغة المبالغة وغيرها، من تنوع هذا التوظيف، وتعدد استعمالاته. فقد يستعمل النص القرآني صيغة اشتقاقية في مكان ما تمكن في مكانها، ثم يعدل عنها في موضع آخر بتوظيف صيغة أخرى، وذلك مراعاة لمقتضيات السياق.

* فمن ذلك قوله تعالى: ? إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ? ()، فقد تم العدول في هذه الآية عن صيغة اسم الفاعل في كلمة (كافورا) إلى توظيف صيغة المبالغة تحقيقاً للمبالغة ذاتها في جنب الجحود والنكران من جانب الإنسان. وهذا العدول يحقق غايتين هما:

الأولى: الحفاظ على التوازن الإيقاعي بين فواصل الآيات في السورة، إذ قبل هذه الآية وبعدها فواصل مبنية على روي (الراء) المتلوَّة بألف الإطلاق، والمردفة بالمدّ الواوي أو اليائي مثل (مذكورا، و بصيرا، وسعيرا). ولم تم العدول عن صيغة المبالغة إلى توظيف صيغة اسم الفاعل لافتقِد الردف الذي تتوازن به فاصلة الآية مع قريناتها في السياق ().

والثانية: معنى المبالغة المتولد من توظيف صيغة المبالغة. إذ تُبْرِز الآية معنى إقبال الإنسان على الكفر والنكران بكثرة، وقلة الإقبال على الشكر والامتنان. يقول أبو السعود: " إيراد الكفور لمراعاة الفواصل، والإشعار بأن الإنسان قلّما يخلو من كفران، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط " ().

إذن تم العدول هنا رعاية للفاصلة، وحفاظاً على دلالة المبالغة الموصوف بها الإنسان في جانب كفرانه لنعم الله، وعدم شكره على هذه النعم.

* ومن ذلك قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ? (). فقد تم العدول هنا عن توظيف صيغة اسم الفاعل (مُنْذِراً) إلى توظيف صيغة المبالغة (نذيراً)، فلمَتمّ هذا العدول في الآية الكريمة مع أن السياق النصي في الآية يعتمد التعبير باسم الفاعل في سياق الآية كلها مثل (شاهداً، ومبشِّراً)، وكذلك في سياق الآية التالية (داعياً)، فلم تم هذا العدول؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير