والآية الكريمة واردة في سياق مدح النبي ? بهذه الأوصاف من ربه ?، وذلك تسلية للنبي ? وتسرية له عما أصابه من عنت المعاندين، وجحود الكافرين. والبلاغيون يعرضون لهذه الآية في سياق الحديث عن النظم وأثره الجمالي في الكلام، ويدرجونها تحت باب (تنسيق الصفات) ()، وكذلك في باب (المدح والذمّ) () بلا إشارة إلى ما تم من عدول بين الصيغ هنا.
ونلاحظ أن هذا العدول تم في إطار الحفاظ على جانبين هما:
الأول: الإيقاع الصوتي المتمثِّل في ورود الفاصلة القرآنية متسقة مع سياقات الآيات بعدها من حيث البناء على روي (الراء) المتلوَّة بألف الإطلاق، المتلوة بالمد اليائي مثل (منيراً، و كبيراً).
والثاني: إرادة المبالغة في هذه الصفة وهي (الإنذار)، غذ لو عبّر بصيغة اسم الفاعل (مُنْذِراً) لما شعرنا بأهمية التأكيد على هذا الإنذار، ذلك أن جانب الإنذار في الدعوة أهم من البشارة التي تأتي دوماً لاحقة في المرتبة الدعوية.
ونلمح في سياق القرآن الكريم أن مادة البشارة إذا وردت على صيغة اسم الفاعل أو صيغة المبالغة تكون سابقة على مادة الإنذار دوماً، وهذا ممثل في النص القرآني في (14 أربعة عشر موضعاً) () ما عدا موضعين تقدمت فيهما مادة (الإنذار) هما: قوله تعالى: ? قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? (). وقوله تعالى: ? أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ? (). وهما في سياق الخطاب المباشر الذي يقتضي تقديم (الإنذار) للترهيب على (البشارة).
ونلمح أيضاً أن اسم الفاعل من مادة (أَنْذَرَ) لم يرد في حالة الإفراد مقترناً باسم الفاعل (مُبَشِّر) على الإطلاق في السياق القرآني، وإذا ما اقترنا فإن ذلك يكون فقط في حالة جمع الصيغتين مثلما نجد في قوله تعالى: ? كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ? ()، وقوله تعالى: ? وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ? ().
وإذا وظف اسم الفاعل من (أَنْذَرَ) في صورة المفرد فإنه لا يقترن باسم الفاعل أو صيغة المبالغة من مادة (بَشَّر)، بل يوظف منفردا مثلما نجد في قوله تعالى: ? إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ? ().
وعلى هذا النهج يمكننا فهم العدول الذي تم في سياقات آية سورة الأحزاب من حيث عدم التعبير بصيغة اسم الفاعل، واختيار صيغة المبالغة لما سبق تقريره من دلالات.
* ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ? وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ? (). فقد تم العدول في هذه الآية عن التعبير بصيغة اسم الفاعل (مُرْتَقِب) إلى التعبير بصيغة المبالغة (رقيب)، وتفسير ذلك العدول كما يلي:
والآية تدور على معنى الحوار الذي تم بين نبي الله شعيب ? وقومه من المعاندين له، وكيف أن الله ? سينصره في نهاية الأمر، فاعملوا ما أنتم عاملون، فالنهاية قريبة، وكلنا سيرى تلك النهاية ويرقبها ().
لكن ما تفسير العدول هنا؟ إن اقتضاء المقام - في غير القرآن – يوجب أن المشتق من الفعل (ارتَقَبَ) هو اسم الفاعل (مُرْتَقِب) وليس صيغة المبالغة (رقيب)، لكن الذي وظف في الآية هو صيغة المبالغة وليس اسم الفاعل. يقول أبو السعود في تفسير هذا العدول الصيغي: " (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) منتظِر، فعيل بمعنى الرَّاقب كالصريم، أو المُرَاقِب كالعشير، أو المُرْتَقِب كالرفيع " ().
فقد فسّر صيغة المبالغة (رقيب) في الآية بأنها على معانٍ هي:
1 - اسم الفاعل من الثلاثي (رَقَبَ) فهو (رَاقِب)، مثل (الصّرِيم) بمعنى (الصَّارِم).
2 - اسم الفاعل من الرباعي (رَاقَبَ) فهو (مُرَاقِب)، مثل (العشير) بمعنى (المُعَاشِر).
3 - اسم الفاعل من الرباعي (ارْتَقَبَ) فهو (مُرْتَقِب)، مثل (الرفيع) بمعنى (المُرْتَفِع).
¥