تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى نزعة الاقتصاد في أساليب القول التي فَضَّلتها العربية، والتي تقوم على أركان عديدة. وفيها تميل العربية إلى التقليل من الفضلة والأدوات إلا إذا اقتضتها البلاغة، واحتاجت إليها الدلالة. وإضافة أي كلمة إلى المسند أو المسند إليه في الاستهلال أو الوسط أو الختام إنما يكون لاستيفاء العناصر التي تشكل الجملة البلاغية المفيدة. ومن هنا يصبح لترتيب الكلمات في أشكالها النحوية ثم البلاغية غايات كبرى في الدلالة والتأثير. وبهذا الترتيب تتنوع أساليب البلاغة العربية، فضلاً عن تنوعها بسبب تنوع الكلمة وبنيتها. فالتوزيع في التركيب النَّحْوي ليس إلا شكلاً بلاغياً في الجملة العربية؛ ويتفاوت أصحابه بمدى قدرتهم على امتلاك هذا النسق اللغوي البلاغي في الإمتاع والإفادة. وهو نسق مليء بالمجازات البلاغية والعلاقات الدلالية.

ولم يأت دو سوسيير بشيء كثير في حديثه عن نظام الجملة اللغوية ونسقِها عما هو موجود في العربية؛ وإن اخترع نظام العلاقات اللغوية القائم على محورين: أحدهما استبدالي، والآخر تركيبي، وبهما تكتسب كل كلمة قيمتها ودلالتها من نظام وضعها في إطارهما وعلاقاتهما. وما تفعله اللغة الأدبية هي أنها تقوم بتكثيف وتوظيف هذه الممارسات المجازية، مما يجعل الاستبدال فيها أصعب منالاً وأعز طلباً. وذلك نتيجة لتوخي العلاقات البعيدة، أو لارتباطها بمنظومات قيَميَّة ثقافية ليست في متناول الجميع ().

ولعل هذا الكلام الجميل يعد إنجازاً في ذاته حين أدرك طبيعية الجملة الثابتة؛ وعبر عنها بـ (التركيبي) وهو يقابل في العربية ركني الجملة (المسند والمسند إليه)، ويقصر عنهما لما يمتلكانه من خصائص أسلوبية في العربية؛ وكذلك حين أدرك طبيعة الجملة المتغيرة بما يلحقها من تحولات في المحور الاستبدالي. وهذا كله موجود في لواحق المسند والمسند إليه في العربية من الفضلة والأدوات، فضلاً عن التبدُّل الذي يطرأ على ترتيب المسند والمسند إليه، وتعريفهما، أو تنكير أحدهما. وأسلوب الجملة في نهاية المطاف لغةً، ولكنه لغة ذات نظام خاص.

وقد تحدث علماء العربية عن ذلك ابتداءً بسيبويه واللغويين وليس انتهاء بالجرجاني والبلاغيين جميعاً. ورأوا في أسلوب الجملة مستويين المستوى الحقيقي المباشر للدلالة، والمستوى البعيد غير المباشر وفيه تتكثف دلالات رمزية كثيرة، وتتغير طبيعة المستويين بتغير الإضافات ونمط التأليف وتناسبه.

إن المتغيرات الأسلوبية في الجملة ترتبط بالصوت والتركيب والدلالة، وهذا كله مما عُنِيَ به في البلاغة العربية، والنحْو العربي وصرفه. فكل شكل يظهر للجملة يمكن أن يتخذ وجوهاً عدة نتيجة التحولات التي تطرأ عليه بدخول الفضلة والأداة، فحين نقول: (محمدٌ رسولُ الله)؛ فإن دلالة هذه الجملة تختلف عن دلالتها لو قلنا: (ما محمدٌ إلا رسولٌ). وكذا الأمر حين نقول: (ذهبَ محمدٌ)؛ فهذا غير قولنا: (أينَ ذهبَ محمدٌ؟)، فأي أداة أو فضلة لا تترك طبيعة التركيب ثابتة في العربية. فالجملة الأولى جملة خبرية، والثانية إنشائية. فبلاغة الجملة العربية منذ وجود العربية ليست سكونية جامدة، وإنما تتجسد كائناً إبداعياً يتجاوز الظرف الوصفي، وتربو فوقه إلى إبداعية خالصة نابعة من تجلياتها الشاملة لكل مستوياتها.

وعليه فالجملة البلاغية العربية في خالص صورها تستند إلى عناصرها المرتبطة بالكلمة ثم بالجملة. في وحداتها المعنوية الصغرى، ولو اتصلت بالسياق النصي فهو سياق مرتبط بالفضلة والأداة. فمفهوم البلاغة وإن راعى مقتضى الحال والمقام عند المتكلم والمخاطب ظل مشدوداً - كما قلنا من قبل- إلى نزعة الاقتصاد اللغوي والبلاغي، فالبلاغة الإيجاز عند العرب. لهذا لا تنظر البلاغة العربية إلى النص المتكامل باعتباره وحدة بنيوية عضوية متعاونة. ولا يعيبها أنها بنيت على ذلك التصور لأنها نتيجة فطرية طبيعية وحتمية للبنية الفكرية والنفسية والاجتماعية للذهنية العربية الأصيلة المتجذرة بالاعتزاز الذاتي الفردي؛ وإن اعتز الفرد منهم بجماعته.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير