تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لهذا يصبح اختيار الصورة اللغوية في حالة الأشكال البلاغية رفضاً مطلقاً للوضوح المباشر الذي يميز العلاقات اللغوية الثابتة في نظام (دي سوسيير) التركيبي. وتغدو الوظيفة البلاغية متنوعة وثرية بثراء أساليب البلاغة العربية؛ بحيث لا نجد نظائر لها في أية لغة من لغات الأمم الحية. ولا يمكن للبلاغي أن يتجاوز تلك الإشارات الهامة للجملة عند بعض الباحثين الغربيين أمثال (جوليا كريستيفا، وجيرار جينيت، وتودورف، ورولان بارت)، وقد تخطت إشاراتهم عالم الأسلوبية إلى ما بعدها. فالجملة يعرفها (تودوروف) في سياق مفهومه للنص بقوله: " يمكن للنص أن يكون جملة، كما يمكنه أن يكون كتاباً تاماً، وهو يعرف باستقلاله وانغلاقه " ().

وترى كريستيفا أن للجملة دور هام في إنتاجية نص ما، فباعتبار " أن المحتمل الدلالي شرط أوّليّ لكل ملفوظ، فإنه يتطلّب في لحظة ثانية (مُكَمِّلُهُ)، أي البنية التركيبية (الجملة) التي ستملأ بتمفصلاتها الفضاء الذي رسم الجمع الدلالي ملامحه الأولى " (). فالجملة هي النص الشاغل للنص المنتج، أو النص الأهم في البناء المهم.

وتربط كريستيفا بين النحو والبلاغة من خلال الجملة فهي البنية الوصلية بينهما لإدراك ما يناط من مقاصد جمالية من تعانق النحو بالحكاية (البلاغة). تقول كريستيفا: " الحكاية (البلاغة) تتبع الخيط التركيبي للجملة. فالمركبات البلاغية للحكاية هي امتدادات للمركبات النحوية " ().

والجملة في العربية قد تأخذ الموقع نفسه الذي أراده (تودوروف)، في كونها نصاً، وفي كونها تتمتع بالانغلاق، فالمتلقي ليس له الحق في تغييرها، وإن كان له الحق في إثرائها بواسطة تأملها تأملاً واعياً. فالجملة البلاغية العربية تتضمن في ذاتها قيماً أسلوبية؛ ثم تستمد قيماً جديدة متحولة من النص والموقف والبيئة، ومن طبيعة اللغة التي تنتمي إليها؛ وفي إطار العناصر المكونة لها والعلاقات التي تربط بينها. ومن هنا نقول: إن مفهوم الجملة باعتبارها نصّاً لدى الغربيين يخالف على نحو ما مفهوم الجملة البلاغية عند العرب في أساليبها المتنوعة.

1 - الجملة القرآنية و صياغتها:

إن خير ما تُوصف به الجملة في القرآن الكريم أنها بناء أُحْكِمَت لبناته، ونسقت أدق تنسيق، لا نحس فيها بكلمة تضيق بمكانها، أو تنبو عن موضعها، أو لا تتعايش مع أخواتها. يقول ابن عطية: " وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن يتبيَّن لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب – يومئذ – في سلامة الذوق، وجودة القريحة " ().

ويتحدث الرافعي عن هذا الإعجاز في بناء الجملة القرآنية بقوله: " وإنك لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة، التي يتصرف فيها، وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه، حتى لا ترى في اللغة كلها أدلّ على غرضك، وأجمع لما في نفسك، وأبين لهذه الحقيقة غير كلمة الإعجاز ... فترى اللفظ قارّاً في موضعه، لأنه الأليق به في النظم، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى، ومع ذلك الأقوى في الدلالة، ومع ذلك الأحكم في الإبانة، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية، مما يتقدمه أو يترادف عليه " ().

والجملة القرآنية تَتَبَّع المعنى النفسي، فتصوره بألفاظها لتلقيه في النفس، حتى إذا استكملت الجملة أركانها، برز المعنى ظاهراً، فليس تقديم كلمة على أحرى صناعة لفظية فحسب، ولكن المعنى هو الذي جعل ترتيب الجملة ضرورة لا مَحيد عنها، وإلاّ اختلَّ وانهار.

* فقوله تعالى: ? وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? ()، نجد فيها كلمة (إسماعيل) معطوفة على (إبراهيم)، فهو كأبيه يقوم بالفعل، يرفع القواعد من البيت الحرام، لكن تأخره في الذكر دون المعطوف عليه، يوحي بأن دوره في هذا الفعل دور ثانوي، أما الدور الأساس فقد قام به إبراهيم ?. يقو الزمخشري: " قيل: كان إبراهيم يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة " ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير