تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

* وكذلك قوله تعالى: ? وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ? (). إذ نجد " المستعان عليه في الآية غير مذكور، لا تخفّفاً من ذكره، ولكن ليوحي هذا الحذف إلى النفس أن كل ما يقوم أمام المرء من مشقة، وما يعترضه من صعوبات، يُستعان على التغلّب عليه بالصبر والصلاة " ().

ودراسة الجملة القرآنية تتصل اتصالاً مباشراً بدراسة المفردة القرآنية لأنها أساس الجملة، ومنها تركيبها. وإذا كان علماء البلاغة يجعلون البلاغة درجات، فإنهم مقرون دون جدل أن صياغة العبارة القرآنية في الطرف الأعلى من البلاغة الذي هو الإعجاز ذاته. وللإعجاز فيها وجوه كثيرة، فمنها:

* ما تجده من التلاؤم والاتساق الكاملين بين كلماتها، وبين ملاحق حركاتها، وسكناتها، فالجملة في القرآن تجدها دائماً مؤلفة من كلمات وحروف، وأصوات يستريح لتألفها السمع والصوت والمنطق، ويتكون من تضامها نسق جميل ينطوي على إيقاع رائع، ما كان ليتم لو نقصت من الجملة كلمة أو حرف أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال. لنقرأ قوله تعالى: ? فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ? ()، و لنتأمل تناسق الكلمات في كل جملة منها، ثم ندقق النظر في تألف الحروف الرخوة مع الشديدة والمهموسة والمجهورة وغيرها، ثم نتمعن في تأليف وتعاطف الحركات والسكنات والمدود اللاحقة ببعضها، لنعلم أن هذه الجملة القرآنية إنما صبت من الكلمات والحروف والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قدر تقديراً بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشرية أن تضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.

* ومنها: إنك تجد الجملة القرآنية تدل بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل، لا يكاد الإنسان يستطيع التعبير عنه إلا بأسطر وجمل كثيرة، دون أن تجد فيه اختصاراً مخلا، أو ضعفاً في الأدلة. لنقرأ قوله تعالى: ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? ()، ثم لنتأمل كيف جمع الله بهذا الكلام كل خُلُقٍ عظيمٍ، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين والصفح عن الظالمين.

*ولنقرأ قوله تعالى مخاطباً آدم ?: ? إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ? ()، لنقف على فرادة التعبير بهذه الجمل إذ جمع الله بها أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس، ومأوى.

* ولنقرأ قوله تعالى: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ? ()، و لنتأمل كيف جمعت هذه الآية الكريمة بين أمْريْن ونهيين وخبرين وبشارتين. أما الأمرين فهما: (أرضعيه، وألقيه في اليم). وأما النهيان فهما: (لا تخافي، ولا تحزني). وأما الخبران فهما: (أوحينا، وخفت). وأما البشارتان فهما: (إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين).

*ولنتأمل سورة الكوثر ? إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ? ()، إذ هي ثلاثة آيات قصار كيف تضمنت على قلة آياتها الأخبار عن مُغَيَّبَيْن: أحدهما الإخبار عن الكوثر، وهو نهر في الجنة وعظمته وسعته وكثرة أوانيه , والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وكان عند نزولها ذا مال وولد، ثم أهلكَ الله سبحانه ماله وولده، وانقطع نسله.

ومنها: أخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس، ثم بث الروح و الحركة في هذا المظهر نفسه. ومكمن الإعجاز في ذلك، أن الألفاظ ليست إلا حروفاً جامدة ذات دلالة لغوية على ما أنيط بها من المعاني، فمن العسير جداً أن تصبح هذه الألفاظ وسيلة لصب المعاني الفكرية المجردة في قوالب من الشخوص والأجرام والمحسوسات، تتحرك في داخل الخيال كأنها قصة تمر أحداثها على مسرح يفيض بالحياة و الحركة المشاهدة الملموسة. أستمع إلى القرآن الكريم و هو يصور لك قيام الكون على أساس من النظام الرتيب و التنسيق البديع الذي لا يتخلف، و لا يلحقه الفساد، فيقول: ?

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير