تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إن قضية العناية التي تناولها علماء النحو والبلاغة واللغة وما زلنا نقرأ عنها حتى يومنا هذا في كتب النحو والنقد والبلاغة، أساسها من صنع سيبويه فهو أول من أشار إليها وطرق بابها، يقول في (باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى المفعول): " فإذا قدمت المفعول وأخرت الفاعل كقولك: ضربَ زيداً عبدُ الله، وكان حظ اللفظ فيه أن يكون الفاعل مقدماً، وهو عربي جيد كثير، كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم، وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " ().

وفي باب (كَسَى وما ينصب مفعولين ليسا المبتدأ والخبر) يرى أن التقديم لبيان العناية والاهتمام كما كان في تقديم المفعول على الفاعل. يقول: " وإن شئت قدَّمت وأخَّرت فقلت: كَسَي الثوبَ زيدُ، وأعْطَي المالَ عبدُ الله، كما قلت: ضربَ زيداً عبدُ الله، فالأمر في هذا كالأمر في الفاعل " (). كما يرى هذه العناية والاهتمام في تقديم الظرف أيضاً (). ويقول في باب (إنَّ): " واعلم أن التقديم والتأخير والعناية والاهتمام ههنا مثله في باب كان " ().

ويرى الزركشي أن وضع سيبويه للتقديم والتأخير قاعدة عامة هي أنهم يقدمون ما يعنون به " وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما – وأناطت به حكماً- وقد يشركه غيره في ذلك الحكم أو فيما أخبر به عنه، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب، فإنهم مع ذلك يبدءون بالأهم والأولى. قال سيبويه: (كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم) " ().

ولعل سيبويه بلفته النظر إلى هذا السر البلاغي الذي تلقفه علماء النحو والبلاغة يكون قد أثرى كثيرا من المباحث البلاغية. ولا شك أن هذا يدل على أنه كان من الأوائل الذين أسهموا في تأسيس البعد التعليلي النظري للتقديم، وفيه ما فيه من مراعاة موقع الوحدات داخل الرسالة اللسانية والشروط التي يفرضها عليه المقام التخاطبي.

ولعل من أهم الذين انتفعوا بمبدأ الاهتمام الذي أقره سيبويه عبد القاهر الجرجاني، فقد سعى إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق، وذلك بتوظيف (الاعتبارات) في البحث عن مصدر اهتمام المتكلم ببعض الجزاء الكلامية دون بعض. يقول الجرجاني: " واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئاً يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول: كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم … إن معنى ذلك أنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم في حال الخارجي، يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، أنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قُتل وأراد مريد الإخبار بذلك، فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتلَ الخارجيَّ زيدٌ، ولا يقول: قتل زيدٌ الخارجيَّ، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له (زيد) جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم " ().

وقال في المقتصد معقباً على قول سيبويه: " يريد أنهم كانوا يقصدون ذكر كل واحد من المفعول والفاعل في قولك: ضرب الأميرَ زيدٌ، فإنهم يقدمون الذي هو أجزل حظاً من العناية والاهتمام مفعولاً كان أو فاعلاً " ().

فالتعليل بالعناية عند الجرجاني ذو طابع عقلي. يقول د. تامر سلوم: " وفي التقديم نرى أن المعنى الوجداني ليس أصلاً في حديث عبد القاهر الجرجاني، إذ القول بالأهمية، أو العناية، وتأكيد الحكم، ودعوى الانفراد ذو صبغة عقلية، لا يتضح فيه تلمس الجانب الوجداني أو المعنى الأدبي " ().

لقد أصبح مبدأ العناية والاهتمام أصلاً معتمداً عند البلاغيين المتأخرين الذين تابعوا سيبويه والجرجاني في دعوتهما إلى تسويغ تقدم اللفظ أو تأخره بالنظر إلى ما يمثله في السياق. يقول الزمخشري في تعليقه على قوله تعالى: ? إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ? (): " هذا كلام جامع لا يزاد عليه. فإن قلت: كيف جعل (خير من استأجرت) اسماً (لإن)، و (القوي الأمين) خبرا؟ قلت هو مثل قوله:

أَلا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حياً وهالكاً أَسيرُ ثقيف عِنْدَهُم فِي السَّلاسِلِ

في أن العناية هي سبب التقديم " ().

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير