تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويقول في تفسيره لتقديم كلمة (راغب) في قوله تعالى: ? قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ? (): " لأنه أهم عنده وأعنى، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته، وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد " (). وقريب منه قول ابن الأثير في الآية نفسها: " ولم يقل: أأنت راغب لأنه كان أهم عنده، وهو به شديد العناية " ().

ولم يخرج السكاكي عن ملاحظة سيبويه في التقديم. يقول: " والحالة المقتضية هي كون العناية بما يقدم أتمّ، وإيراده في الذكر أهمّ، والعناية التامة بتقديم ما يقدم والاهتمام بشأنه نوعان: أحدهما أن يكون أصل الكلام في ذلك هو التقديم، ولا يكون في مقتضى الحال ما يدعو إلى العدول عنه. وثانيهما: أن تكون العناية بتقديمه والاهتمام بشأنه لكونه في نفسه نصب عينيك، وأن التفات الخاطر إليه في التزايد، كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك وقيل لك: ما تتمنى؟ تقول: وجه الحبيب أتمنى " ().

لقد جعل السكاكي التقديم للعناية مطلقاً أي سواء كان المقدم من معمولات الفعل أو غيرها. كما جعل الأهمية ههنا قسيماً لكون الأصل التقديم، ومراده بالأهمية؛ الأهمية العارضة بحسب اعتناء المتكلم أو السامع بشأنه، واهتمامه بحاله لغرض من الأغراض كقولك: قتلَ الخارجيَّ فلانٌ، بتقديم المفعول، لأن المقصود الأهم قتل الخارجي ليتخلص الناس من شره ().

مظاهر العناية والاهتمام:

إن تقديم بعض المعمولات على بعض لا يكون إلا بكون ذلك البعض أهم، لكن ينبغي أن يفسر وجه العناية بشأنه، ويعرف له معنى، ولا يكفي أن يقال: قدم للعناية والاهتمام، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال: إنه قدم للعناية، ولتخيلهم ذلك قد قصر أمر التقديم والتأخير في نفوسهم وهونوا الخطب فيه، ولعل ذلك ما ذهب بهم عن معرفة البلاغة ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها ().

يقول ابن يعقوب المغربي: " ثم كون الذكر أهم لا يكفي في علة التقديم لذاته، لأن الأهمية نفسها حكم يفتقر إلى علة توجبها، إذ الأهمية بالشيء هي الاعتناء به، والاعتناء لا بد له من سبب، فلذلك لو قيل: هذا أهم من ذلك، كان هذا القائل بصدد أن يقال له لماذا كان أهم؟ ومن أي وجه كانوا به أعنى؟ " ().

وبهذا يكون ذكر الأهمية كالقانون الجامع الذي سنسعى إلى تفصيله من خلال عرض بعض مظاهر وتجليات العناية الدائرة في فلك الانفعالات النفسية من تعجب واستعظام وفرح وحزن وتفاؤل وتشاؤم ومدح وذم وتشويق وتبكيت، باعتبار أن الأهمية هي المعنى المقتضي للتقديم، وجميع المذكورات تفاصيل له.

إن معظم علل التقديم هو من مظاهر العناية بالمقدَّم، وهو تفاصيل للعناية، إذ كانت العناية بمثابة القانون الجامع، وكانت هذه المعاني النفسية مظهراً لها، وهي لا تنحصر. والذي يطبع هذه الظاهرة الأسلوبية البلاغية ويحكمها هو الأبعاد النفسية الانطباعية، ذلك أن النفس تُعنى وتتطلع إلى تقديم الذي بيانه لها أهم، وهي بشأنه أعنى، فقد يشغل نفسَ المتلقي أمرٌ من الأمور، وتتطلع إلى خبره، وتتشوق إلى ما تم بشأنه، لكون التعرف عليه مهماً لديها، أو لأن أموراً مهمة تترتب عليه، فحينئذ ولكي يكون التعبير أكثر قدرة وقابلية على التأثير والإثارة، يقدَّم فيه ما انعقد القلب به، وإن كان حقه الترتيبي من حيث الوجود الذهني التأخير، وذلك حتى يعجل للنفس ما تريد التعرف عليه فتطمئن وتستقر، وإلا فقَدَ النص قيمته لانشغال النفس عما يرد فيه بما تعلقت به وتأخر بيانه في النطق ().

وقد كان عبد القاهر أقرب البلاغيين إلى تفهُّم حقيقة هذه الظاهرة والكشف عن بعدها النفسي حينما ذهب إلى أن النفس إنما تُعنى بتقديم ما تهتم بشأنه، وذلك لأنه ماثلٌ نصب العينين، وأن التفات الخاطر إليه في ازدياد.

لقد اتضح من خلال ما سبق – بما لا يدع مجالاً للشك – أن العناية ومظاهرها أصل من أصول التعليل البلاغي لظاهرة التقديم والتأخير، وأن ارتباطها بالملكات النفسية المعبر عنها بما تفرع عن العناية الدالة على حسن مراعاة المخاطب وسبر أغوار نفسه أمر لا يمكن تجاهله البتة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير