فالسياق هنا سياق تقليل لهذه الفئات الناجية يوم القيامة؛ فالسابقون الأولون أكثريتهم من الأولين، وأقلهم من المتأخرين. ومن ينعم برؤية المولى ? منا هم فئة ناجية استحقت بإخلاصها هذه المنحة والمنة العظمى. ولذا كان سياق النكرة في هذه الآيات سياق تقليل، وذلك لإبراز تميز هذه الفئات وتفردها بهذا المقام، وهذه المكانة السامقة.
* وما ورد من النكرة للنوعية، فيتمثل في الآية التالية:
- قوله تعالى: ? فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ? سورة الواقعة آية رقم (91). أي أن هذا السلام مختلف تماماً عما عهدناه من سلامات، فهو سلام أهل الجنة للنبي ? سلام أصحاب اليمين، مبلغا من قبل رب العزة ? فهو سلام مختلف في نوعه، مختلف في مصدره، مختلف في منتهاه، مختلف تماما فيمن يبلغه ويحمله. ويجوز هنا حمل النكرة على أن الغرض منها في هذه الآية هو (التكثير)، وذلك لكون أهل اليمين في الجنة كثير، وهم يسلمون على النبي ? فتحمل النكرة هنا على هذا الغرض.
وهكذا فإن سياقات العدول في تقديم النكرة جاءت متناسبة مع السياق العام لهذه الآيات، ومتناغمة مع النسيج النصي الذي وظفت فيه، رعاية للبعد الدلالي والجمالي لهذه التوظيفات.
* كذلك من ألوان التلوين العدولي بالتقديم والتأخير ما أشار إليه أهل البلاغة من فروق دلالية بين الابتداء بأحد المعرفتين في السياق التركيبي، أي عندما يكون المبتدأ والخبر معرفتين. فقد كان تقرير النحويين لهيكل الجملة الاسمية صريحا إذ جعلوا لهيكلها الرئيسي ركنين رئيسيين هما: (المبتدأ) + (الخبر). وقد يتم اختراق هذا الهيكل لأغراض ومقاصد متعمدة.
وفي إطار البحث في هذه الأغراض والمقاصد المؤدية إلى هذا الاختلال التركيبي للنسق المثالي لهيكل الجملة الاسمية، تناول النحويون بالتحليل أحد فروض هذه الهيكلة، وهو (التعريف والتنكير في ركني الجملة الاسمية). وما يقصد بالتعريف والتنكير هو فروض شكلية تتخذ شكلاً من الأشكال الآتية:
1 - (مبتدأ معرفة) + (خبر نكرة).
2 - (مبتدأ معرفة) + (خبر معرفة).
3 - (مبتدأ نكرة) + (خبر نكرة).
هذه الأشكال هي التي حكمت مسألة التعريف والتنكير لركني الجملة الاسمية. لكن أي هذه الأشكال هو الأصل الأول لتشكيل الهيكل التركيبي للجملة الاسمية؟ وأيها يأتي تاليا بعد ذلك؟ والإجابة على هذا التساؤل نجدها عند الكثير من النحويين. فابن السراج يشير إلى أنه: " إذا اجتمع اسمان معرفة ونكرة، فحق المعرفة أن تكون هي المبتدأ، وأن تكون النكرة الخبر، لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده، فالخبر هو الذي ينْكِره ولا يعرفه، ويستفيده، والاسم لا فائدة له لمعرفته به، وإنما ذكرته لتسند الخبر إليه " ().
فهو يجعل من الشكل الأول (الأصل)، فالمبتدأ حقه التعريف، والخبر حقه التنكير ليصح الإخبار عنه، والتنبيه عليه. وتأمل قوله: (لأنك إذا ابتدأت فإنما قصدك تنبيه السامع بذكر الاسم الذي تحدثه عنه ليتوقع الخبر بعده) فقد جعل غرض هذا التعريف والتنكير هو تنبيه السامع ولفت انتباهه للخبر الذي لا يعرفه، وذلك عن طريق المبتدأ الذي يعلمه جيداً. وهذا هو أسلوب البلاغة في أداء المعاني، بالدلالة على المجهول بما هو معلوم ليكون ذلك أوكد للمعاني في الذهن.
والسهيلي يرى هذا الشكل الأصل المقرر إذ يقول: " حق المبتدأ أن يكون معرفة أو مخصوصاً، وإلا لا فائدة في الإخبار عنه، فإن لم يكن منعوتاً أو مخصوصاً ولا مستفهماً عنه ولا منفياً نحو: ? َلا لَغْوٌ فِيهَا ? () فلا يخبر عنه " ().
والمهلبي (ت583 هـ) يفصل المسألة أكثر بقوله: " حكم الاسم المبتدأ أن يكون معرفة لأنه إذ لم يعرف في نفسه فأجدر أن لا يعرف في غيره، ولأنك إنما تخبر الرجل عمن لا يعلمه بما يعلمه، فتقع الفائدة بإخبارك إياه، فأما إذا أخبرته عمن لا يعلمه بما لا يعلمه لم تقع بذلك فائدة " ().
وعلى النهج نفسه يسلك ابن يعيش في المسألة باحثاً في جوانبها بقوله: " أصل المبتدأ أن يكون معرفة، وأصل الخبر أن يكون نكرة، وذلك لأن الغرض في الإخبارات إفادة المخاطب ما ليس عنده، وتنزيله منزلتك في علم ذلك الخبر، والإخبار عن النكرة لا فائدة فيه " ().
¥