وتعليق المغفرة على وصف الربوبية فيه مزيد استعطاف من الداعي، فإن الربوبية مظنة العطاء، ولا عطاء أعظم من غفران الذنوب مع عظم تقصير المذنب، ففيه من الرجاء وحسن الظن بالله ما فيه، وحسن الظن لا يكون إلا بحسن العمل، فإن من أحسن العمل رجا في سيده خيرا، ومن أساء ظن بسيده شرا، و كما قال الحسن رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
وكما قال أيضا: "إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا". اهـ
فقابل بين: خشية المؤمن العالم وأمن المنافق الجاهل، وإحسان الأول وإساءة الثاني فظهر من حسن البيان لحال كليهما ما ظهر.
و "لي": اللام للتعدية والاختصاص، فالداعي في أمس الحاجة إلى مغفرة تخصه بعينه، فهي غاية كل مكلف، وإذا عُدِم الرفيق فـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
وطريق الهداية: طريق موحش، سالكه قليل، والأنيس فيه عزيز، وعن بعض السلف:
"عليك بطريق الهدى ولا يضرنك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا يغرنك كثرة الهالكين". اهـ
فالمقابلة حاصلة، أيضا، بين كلا الشطرين:
"عليك": الإلزامية و "إياك": التحذيرية.
و: طريق الهدى و طريق الضلالة.
و: يضرنك ويغرنك.
و: قلة وكثرة.
و: السالكين والهالكين.
ولله در أبي الطيب إذ يقول:
أهم بشيء والليالي كأنها ******* تطاردني عن كونه وأطاردُ
وحيدا من الخلان في كل بلدةٍ ******* إذا عظم المطلوب قل المساعدُ
وكان مطلوبه إمارة زائلة فكيف بمن كان مطلوبه: (نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)؟!!.
*****
وحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، مرفوعا، وفيه: (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني)، وعند أبي داود رحمه الله: "وعافني" مكان "واجبرني".
دعاء شامل لكل أحوال العبد:
اغفر لي ما سلف.
وارحمني في عاقبة أمري.
واهدني: هداية دلالة، وتوفيق، ولزوم هدى، وطريق جنة في الباقية.
وارزقني: رزق الروح فلا تكلني إلى سواك فلا أغتذي إلا إسلاما وسنة، ورزق البدن فلا تطعمني وتسقني وتكسني إلا حلالا فضلا منك ومنة.
واجبرني: فالصوارف كثيرة، والتقصير غالب، والتمام نادر، والجبران منحة لا يعطاها إلا ناج ولا يحرمها إلا هالك.
وعافني: عافية دين ودنيا، فالعافية: عافية روح من الكفر والبدعة، و: عافية بدن من العجز والعلة.
والله أعلى وأعلم.
ـ[مهاجر]ــــــــ[19 - 09 - 2008, 07:32 ص]ـ
ومن أذكار الاستفتاح:
قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ).
تكرار تصدير الدعاء بـ: "اللهم": إطناب يناسب مقام التذلل للباري عز وجل، فالداعي مفتقر إلى عطاء مدعوه.
وفي الاكتفاء بـ: "الميم" في آخر "اللهم" ملمح مطرد في لغة العرب، إذ هي عوض عن ياء النداء في أول الكلام فـ: "اللهم" تعدل: يا الله، وقد تقرر أنه لا يجمع بين العوض والمعوض عنه، لما فيه من التكرار المعيب، ولذلك حذف عامل الإغراء في قولك: أخاك أخاك، لقيام التكرار مقامه، وهذا أمر يستحق التتبع والاستقراء.
وفي هذا الدعاء: تشبيه للبعد المعنوي بالبعد الحسي:
فشبه رغبة الداعي في بعده عن ذنوبه، وهو أمر معنوي، ببعد المشرق والمغرب، وهو أمر مادي، ولقائل أن يقول بأن البعد هنا أيضا: مادي، فيؤول الكلام إلى: البعد بين العاصي وجزاء ذنوبه، وهو النار، فيكون مجازا عند من يقول بالمجاز، إذ أطلق السبب وهو: "الذنوب"، وأراد المُسَبَبْ: "النار".
اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ:
¥