وقال بعض العلماء إنما يكون النداء بـ: "يا أيها": لمن حضر الصلاة خلفه، لا لمن غاب عنه، فقد أثر عن بعض الأصحاب، رضي الله عنهم، أنهم كانوا يقولون في تشهدهم بعد وفاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "السلام عليك أيها النبي"، وعند ابن أبي شيبة، رحمه الله، في مصنفه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن: "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"، وهو بين ظهرانينا فلما قبض قلنا: السلام على النبي).
فيكون في حذف النداء على هذا القول: اقتصار على ما تمس إليه الحاجة في نظم الكلام، فيؤدى المعنى المراد بأخصر عبارة وأتم بيان.
السَّلَامُ عَلَيْنَا: عموم بعد خصوص، فيدخل فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضمنا، بعد أن أفرد بالذكر مطابقة.
وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ: عموم أعم من السابق، فيدخل فيه المتشهدون تضمنا، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من باب أولى، بعد أن أفرد كلاهما بالذكر مطابقة، وقد تقرر في مبحث العموم والخصوص، أن العموم والخصوص درجات، فالعموم القريب فرد من أفراد العموم البعيد، فيكون خاصا باعتبار ما فوقه من أنواع، وإن كان عاما باعتبار ما تحته من أفراد، حتى نصل عموم لا أعم منه، كالمعلوم الذي يشمل كل الأنواع: واجبة أو جائزة أو حتى محالة، وخصوص لا أخص منه كزيد وعمرو وبكر وهند ........... إلخ. فيكون المتشهد قد سلم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا السياق: ثلاث مرات: مرة مطابقة، ومرتين تضمنا، وفي ذلك من الإشارة إلى علو منزلته ما فيه.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ: إقرار بوحدانية المعبود، جل وعلا، على طريقة الرسول الخاتم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلا يقبل العمل إلا إذا كان: خالصا لوجه الباري، عز وجل، صوابا على طريقة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وفي التنزيل: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)، فالعمل المنجي: الصالح الموافق للسنة، الخالص لوجه الرب، جل وعلا، فلا يشرك فاعله بعبادة ربه أحدا.
فالشهادة الأولى: توحيد الجهة، فمن وحد المعبود اجتمع عليه شتات جنده، فقوي قلبه وخضعت جوارحه، وفي التنزيل: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فلا يستوي السالم والمشرك.
والشهادة الثانية: توحيد الطريق والمنهج. فلا تتشعب بنا الأقوال ولا تتجارى بنا الأهواء، ومن كان بالسنة ألصق فهو إلى النجاة أقرب، ولذلك كان أهل الحديث والأثر ممن اعتنى بكلام المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم: رواية ودراية، علما وعملا، هم أقرب الناس إلى الإسلام والسنة، وأبعدهم عن الشرك والبدعة، والعصمة في اتباع المعصوم.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ:
دعاء بالثناء على النبي الخاتم وآل بيته من الأهل والذرية الطيبة، رضي الله عنهم جميعا، فهو إجمال بينته رواية أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وفيها: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ)، فوقع البيان مطابقة، ولقائل أن يقول بأن السياق: عموم بعد خصوص، فتكررت الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: مطابقة بإفراده، وتضمنا باشراكه مع الآل، فهو سيدهم، ولذلك عدل عن ضمير جماعة النساء في آية التطهير: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، في قوله تعالى: (عنكم)، لما دخل سيد البيت، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في الخطاب بعد أن كان الخطاب لزوجاته: أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ:
ويقال أيضا: دخل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه الصلاة لأنه فرد من عموم آل إبراهيم، فيكون المصلي قد صلى عليه ثلاث مرات: مرة بدلالة المطابقة، ومرة بدخوله عليه الصلاة والسلام في الآلين: آل محمد وآل إبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ: توكيد بـ: "إن" واسمية الجملة قبل دخول الناسخ، والحمد والمجد يعمان كل صفات المدح: جمالا وجلالا، على الترتيب، فالحمد بالجمال والمجد بالجلال، فله، جل وعلا، كمال الثناء بكمال أوصاف الجمال حمدا، وكمال أوصاف الجلال مجدا.
اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ: إطناب في الثناء على النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وآل بيته، رضي الله عنهم، يقتضيه المقام، فلا يليق في مثل هذا الموضع الإيجاز بأن يقال على سبيل المثال: وبارك عليهم، أو وبارك على من تقدم ذكره، فإن الإضمار في موضع يحسن فيه الإظهار، والإيجاز في موضع يحسن فيه الإطناب: مئنة من سوء الفهم وعجز اللسان، والحبيب يلتذ بجريان ذكر حبيبه على لسانه، فكيف يضمر اسمه ويوجز وصفه؟!!!.
والله أعلى وأعلم.
يتبع إن شاء الله.
¥