ـ[مهاجر]ــــــــ[12 - 11 - 2008, 09:38 ص]ـ
ومن الأذكار بعد التشهد:
"إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ":
أحدكم: عموم يشمل كل المكلفين بمن فيهم القائل: صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو داخل في عموم كل خطابات الشريعة إلا ما استثناه الدليل على تفصيل في كتب الأصول ليس هذا موضعه.
فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ: أمر يفيد الإرشاد على وزان الأمر في قوله تعالى: (إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، وقال بعض أهل العلم: هو للوجوب، وهذه طريقة ابن حزم، رحمه الله، في حمل كل أوامر الشريعة على الوجوب.
مِنْ أَرْبَعٍ: توشيح يفيد استرعاء انتباه المخاطب بإجمال يعقبه تفصيل.
مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ: ترديد بذكر العذاب مقيدا بقيدين: جهنم، وفي تقديم الاستعاذة من عذابها تقديم لما هو أولى بالدفع، والقبر، فنعيمه وعذابه كالمرقاة بين يدي نعيم الآخرة وعذابها، فهو أول منازلها فتعم الاستعاذة من العذاب في هذا الحديث: مقدماته وغاياته.
وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ:
المحيا والممات: طباق بالإيجاب يعم كل ما يتعرض له المكلف من فتن في حياته وعند مماته، فمن نجا منهما نجا مما بعدهما من فتنة القبر وسؤاله، فإن للمقدمات نتائج، فمن كانت بدايته مشرقة كانت نهايته مشرقة، وقال بعض أهل العلم: من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة، والاحتراق هنا: احتراق في طلب الحق والعمل به، لا احتراق هلكة، فهو مشرق الباطن وإن كان ظاهره محترقا.
وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وفي رواية عند البيهقي رحمه الله:
"شر فتنة المسيح الدجال": خصوص بعد عموم، تنبيها على عظم فتنة المسيح الدجال فهي من فتن الدنيا ومع ذلك أفردت بالذكر تنبيها على خطرها.
"المسيح": إما من "ماسح" فهو: يمسح الأرض طولا وعرضا إلا ما ورد النص باستثنائه كالحرمين، أو "ممسوح" فهو: أعور ممسوح العين، ولا مانع من القول بكلا الصيغتين فتنوب صيغة "فعيل" عن صيغتي: "فاعل" و "مفعول" في آن واحد، مع ما فيها من معنى المبالغة، فمسحه للأرض: مسح كاسح، وعوره بين واضح، فعينه ممسوحة مسحا بليغا، فتكون المسألة من باب دلالة المشترك على كل معانيه على سبيل الشمول، فدلت: "فعيل" على الضدين: الفاعل والمفعول.
*****
اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك:
أعني: دعاء يفيد افتقار العبد إلى معونة الله، عز وجل، لكي يأتي بالطاعة على وجهها، فهو مفتقر إلى ربه، جل وعلا، افتقار العبد المصنوع إلى الرب الصانع، فهو الذي أوجده، وأعده للتكليف، وأمده بغذاء بدنه وروحه، فبالشريعة تحيى القلوب وبخشاش الأرض تحيى الأبدان، ولفظ المعونة أبلغ في بيان حال العبد، فهو جامع في الإثبات لـ: فعل العبد، فهو الفاعل، وفعل الرب، فهو المعين الذي يخلق فيمن اصطفاه من عباده: طاقة فعل الطاعات فضلا، فلا يجبر مكلفا على طاعة، إذ الإجبار مظنة افتقار المجبِر إلى فعل المجبَر، والله، عز وجل، غني عمن سواه. وهو الذي يخلق ذات الفعل، فلا يكون في هذا العالم إلا ما أراده كونا، فصار العبد مفتقرا إلى معونته من كل جهة: من جهة وجوده فهو ممكن يفتقر إلى موجد، ومن جهة إعداد جوارحه لتقبل الطاعات، فصحة المحل شرط في التكليف، ومن جهة إمداده بالشريعة التي تملأ قلبه علما وجوارحه عملا، ومن جهة توفيقه إلى استعمال تلك الجارحة في الطاعة، فيخلق في قلبه إرادة الخير، ومن جهة خلق أفراد الطاعات، فيجري على لسانه الذكر، ويجري على جوارحه العمل، فهما فرعان ظاهران على أصل باطن، إذ صحة التصور العلمي أصل باطن لصحة القول والعمل، فمبدأ العمل الصحيح: علم صحيح، ولا يكون ذلك إلا من علم النبوة.
ذكرك: بالقلب واللسان، وأفضله ما تواطأ فيه القلب واللسان.
وشكرك: بالقلب واللسان والجوارح، فهو أعم من الذكر من جهة آلته، فيكون عطفه عليه عطف عام على خاص.
وحسن عبادتك: عطف عام أعم على عام أخص، فهو بمنزلة الجنس الأعلى لما تحته، فالعموم والخصوص درجات كما قرر أهل العلم، فيكون في الكلام ترقٍ من الأدنى إلى الأعلى، فالعبادة من جهة فعل العبد: كمال الذل مع كمال الحب، فتعم كل أحواله: ظاهرة كانت أو باطنة، فالذل: ملزوم الخوف، فلا يذل الإنسان إلا لقوي يخشى بطشه ومن أشد بطشا من الجبار عز وجل، والحب: ملزوم الرحمة، فلا يحب الإنسان إلا من يرحمه ويحسن إليه فمن أرحم بالعبد من الرحمن عز وجل؟، وفي التنزيل: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، فالرغبة: لازم الحب: فبه يمتثل الأمر الإلهي فعلا، والرهبة: لازم الخوف: فبه يمتثل الأمر الإلهي تركا.
والرغبة مقصودة لذاتها: إذ فعل الطاعة مراد الشارع، عز وجل، فهو غاية خلق العباد، وفي التنزيل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
والرهبة مقصودة لغيرها: إذ ترك المعصية مراد لغيره، فهو بمنزلة المكمل للطاعة، فصيانة الطاعة تقتضي الكف عن ضدها لئلا تذهب بركتها بشؤم المعصية. ولذلك كان جنس فعل الطاعة خيرا من جنس ترك المعصية، ففي فعل الطاعة فعل ما يحب الله، عز وجل، بينما ترك المعصية وإن كان أصلا في هذا الباب إلا أنه: محض كف، والفعل خير من الكف.
وبجناحي الحب والخوف يستوي القلب في رحلته إلى الرب جل وعلا، فإن أصاب العطب أحدهما اختل سيره، فمن غلب عليه الخوف فأخلاقه حرورية، ومن غلب عليه الحب فأخلاقه صوفية، ومن استوى جناحاه فأخلاقه نبوية.
والله أعلى وأعلم.
¥