وهذا من البيهقي رحمه الله في غاية الجودة، إذ لو قلنا إن حديث عبد خير الثاني ظاهر في المسح على القدمين لزمنا أن نرد حديثه في غسلهما والذي وافق فيه الأئمة، فكان القول بأنه اختصر فأخل أولى من ذلك، ويحمل حديثه هذا على حديثه الأول الصحيح وحديث أصحابه في المسح على ظاهر الخفين لا ظهر القدمين.
وبالطبع لا يظنن ظان أن البيهقي يضعف عبد خير مطلقا، إنما أراد بمقالته هذه غمزه والإشارة إلى أنه لا يقال عبد خير ثقة ويأخذ بحديثه استدلالا على المسح على ظهور القدمين، فعبد خير يضيق أن يحتج به في مثل هذا، ويدعم البيهقي رحمه الله ما ذهب إليه بأن صاحبي الصحيح لم يخرجا لعبد خير، فهذه قرينة على أنه ليس بذاك الثقة المتقن الذي يحتمل في مثل هذا، والله تعالى أعلم.
المثال الثاني:
قال أبو بكر البيهقي رحمه الله 1/ 190
.... وهذا الحديث رواته ثقات إلا أن حميدا لم يسم الصحابي الذي حدثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله، وداود بن عبد الله الأودي لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
وقد علق ابن التركماني على أبي بكر عدة نقاط وما يخصنا منها قوله:
.... ثم داود بن عبد الله الأودي وثقه ابن معين وابن حنبل والنسائي، كذا ذكره ابن القطان، ووثقه البيهقي بقوله: (وهذا الحديث رواته ثقات)، فلا يضره كون الشيخين لم يحتجا به لأنهما لم يلتزما الإخراج عن كل ثقة على ما عرف، فلا يلزم من كونهما لم يحتجا به أن يكون ضعيفا.
وقد قال البيهقي في كتاب المدخل:
وقد بقيت أحاديث صحاح لم يخرجاها وليس في تركهما إياها دليل على ضعفها، فإن كان قصد البيهقي بقوله (لم يحتجا به) تضعيفه كما هو المفهوم من ظاهر كلامه فعليه ثلاثة أمور:
أحدها أنه ناقض نفسه كما تقدم.
ثانيها أنه قصد تجريج من وثقه الناس.
ثالثها تجريجه بما ليس يجرحه.
قلت:
ساق البيهقي أحاديث الوضوء بفضل المحدث، ومنها حديث نافع عن عبد الله بن عمر أن الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتوضأون جميعا في الإناء الواحد. قال أبو بكر: رواه البخاري في الصحيح عن عبد الله بن يوسف عن مالك بن أنس.
ثم ساق أحاديث النهي عن ذلك ومنها حديث داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري قال لقيت رجلا صحب النبي صلى الله عليه وسلم كما صحبه أبا هريرة أربع سنين قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم، أو يبول في مغتسله، أو تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعا.
ثم ذكر نحوه من طريق داود عن حميد أيضا. قال أبو بكر: إلا أنه لم يقل: وليغترفا جميعا.
ثم قال أبو بكر:
وهذا الحديث رواته ثقات إلا أن حميدا لم يسم الصحابي الذي حدثه، فهو بمعنى المرسل، إلا أنه مرسل جيد لولا مخالفته الأحاديث الثابتة الموصولة قبله، وداود بن عبد الله الأودي لم يحتج به الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى.
قلت:
الذي حصل مع البيهقي رحمه الله أنه وجد حديثين متعارضين، إباحة ونهي فما تُراه يفعل بهما، نظر إلى الأول فإذ هو قد جاز القنطرة، نظر إلى الثاني فوجد رجاله موثوقون، لكنه مرسل، قال أبو بكر إرسال جيد لكنه مشكل مع مخالفته الصحيح المتصل عند البخاري، كيف الطريق إلى حل الإشكال، الذي قرره هذا الإمام الجهبذ أن حديث البخاري هو الصواب وهذا مخالف له، فإن قيل له رجاله ثقات، قال وقد يهم الثقة، ومن اتفق على ثقته ليس كمن لم يُتَّفق، والأودي لم يحتج به الشيخان، فإن قيل هل أبو بكر يضعف الأودي؟ قلنا:لا، بل يغمز روايته هذه، ويقدم تلك عليها.
المثال الثالث:
قال أبو بكر 2/ 52
ورواه الحسين بن حفص عن سفيان وقال: لا يجهرون ولم يقل لا يقرؤون، وأبو نعامة قيس بن عباية لم يحتج به الشيخان والله أعلم.
قال ابن التركماني:
¥