فأثبت بالصريح معنى الاستواء وفوض كيفيته مثبتا أنها معلومة عند الله
وهذا تفريق منه صريح بين المعنى والكيف.
إذا علمت كل ما تقدم تبين لك أن الخلط وعدم التفريق بين إثبات أصل الكيف وبين تفويض العلم بكنهه وحقيقته هو الذي ورط المخالفين وأوقعهم في الاضطراب والخلط في التعامل مع نصوص السلف
وسبق أن ذكرت المعطلين لصفات الله من المؤولة والمفوضة بأنهم يوافقوننا في نفي التكييف نظريا ولفظيا بينما هم يكيفون الصفات تحت مسمى التنزيه
عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمع قاصاً يقص بحديث النزول، فقال: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا، بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال. فارتعد أبي ـ رحمه الله ـ، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخوض، فلما حاذاه قال: يا هذا، رسول الله صلى الله عليه وسلم أغير على ربه عز وجل منك، قل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانصرف "
فالتفصيل في النفي نوع من الخوض في الكيفية
والتكييف غير قاصر على المتجاوزين في الإثبات من المشبهة بل التفصيل في النفي والذي يلهج به طوائف التعطيل هو في أكثره من الخوض في الكيف
قال الإمام الآجري في كتابه الشريعة:
" باب: الإيمان والتصديق بأن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة
قال محمد بن الحسين الآجري رحمه الله: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يردد هذا إلا المعتزلة.
وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف، لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل، ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة، والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد وكما قبل العلماء منهم ذلك، كذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها فهو ضال خبيث، يحذرونه ويحذرون منه " ا. هـ
فطلب الكيف عزاه هنا الإمام الآجري للمعتزلة أحد أبرز طوائف التعطيل
طبعا المعتزلة لا يقولون كيف إثباتا وإنما نفيا تماما كما تفعل طوائف التعطيل
وإن كان مراده هنا طلبهم الكيف تعجيزا لأهل الإثبات كما يفعله اليوم معنا كثير من الأشاعرة عندما نجيبهم بمعاني الصفات فيطلبون منا التفصيل في إثبات المعاني تعجيزا
ونقل الإمام الذهبي عن محمد بن الحسن المصري القيرواني قوله في الاستواء:
" وهذا هو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكن في مكان ولا كون فيه ولا مماسة
قال الذهبي:
" قلت سلب هذه الأشياء وإثباتها مداره على النقل فلو ورد شيء بذلك نطقنا به وإلا فالسكوت والكف أشبه بشمائل السلف إذ التعرض لذلك نوع من الكيف وهو مجهول وكذلك نعوذ بالله أن نثبت إستواءه بمماسة أو تمكن بلا توقيف ولا أثر بل نعلم من حيث الجملة أنه فوق عرشه كما ورد النص " ا. هـ
والعاقل يعلم صحة هذا الكلام فكل أحد يفصل في وصف شيء لم يره سواء بالنفي أو الإثبات ويغرق في هذا التفصيل دون مستند خاص في هذه الأوصاف فهو خائض فيما لا ينبغي له سواء نفى أم أثبت
ومن هذا تعلم انحراف أهل التعطيل الذين فتحوا باب الخوض بالنفي على مصراعيه فجوزا نفي ما لم ينفه الله عن نفسه ولا نفاه عنه رسوله ولا سلفنا الصالح
ولو كانوا صادقين في حرصهم على كمال الله وتنزيهه لما فتحوا الباب على مصراعيه للنفاة ولو من غير دليل وأغلقوه على المثبتين ولو بالدليل
أو على الأقل لو كانوا صادقين لأغلقوا الباب على الفريقين من باب أن القوم قد احتاطوا بزيادة
أما أن يفتح الباب للنفي والتعطيل دون التقيد بالنصوص ويغلق باب الإثبات ولو مع توافر الأدلة فهذه هي ثالثة الأثافي
وهذا وحده يكشف لك أن غرضهم هو التعطيل ليس إلا
والناظر في كتب من أسرفوا في التعطيل يعلم أن النفي الغير منضبط بالدليل قد ملأ طروحاتهم في هذا الباب فعلى سبيل المثال تجدهم يلهجون بوصف الله سبحانه وتعالى بقولهم:
¥