وللتأكيد على أن الاصطلاح لا يكون مقصودا لذاته عند السلفيين، وفي هذه القضية بالذات، نقول: إن من علماء المنهج السلفي ممن تربى على تراث شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- من وجد أن ضم توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات في قسم واحد سوف يعين على وضوح الفكرة لما بينهما من المشاكلة في أنهما يدوران حول المعرفة الصحيحة بالله -تعالى-، وسماه "توحيد المعرف والإثبات" في مقابلة توحيد الألوهية الذي سماه بتوحيد "القصد والطلب"، وسار هذا التقسيم في كتب من أكثر الكتب تداولا وتدارساً بين أتباع المنهج السلفي وهو أرجوزة "سلم الوصول" وشرحها "معارج القبول" للشيخ حافظ حكمي -رحمه الله-.
بيد أن هذا التقسيم لا يعني أن توحيد الألوهية خارج عن "معرفة الله"، فإن معرفة الله تكون بمعرفته بربوبيته، وتكون بأسمائه وصفاته، وتكون بمعرفة حقه علينا، وهو أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وهو توحيد الألوهية كما في حديث معاذ -رضي الله عنه- قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير فقال: يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) متفق عليه.
وتكون بمعرفة شرعه وأحكامه، وتكون بمعرفة مآل أهل طاعته، ومآل أهل معصيته كما قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (النساء:17)، قال: "كل من عصى الله فقد عصاه بجهالة".
وعلى هذا فمصطلح "معرفة الله" عند السلفيين أعم بكثير من معناه عند المتكلمين والصوفية، رغم أن الصوفية قد يستخدمونه في حق من يصل عندهم إلى الكشف -في زعمهم- فيسمونه "عارفاً بالله"، وإن كان هذا خارجا عن موضوع بحثنا الآن.
وإن كان أهم جوانب معرفة الله -عز وجل- هو التوحيد بجميع أقسامه كما قال الشيخ حافظ حكمي -رحمه الله- في أرجوزته:
أول واجب على العبيد معرفة الرحمن بالتوحيد
إذ هو من كل الأوامر أعظم وهو نوعان أيا من يفهم
ولعله انتزع هذه الأبيات من حديث معاذ لما أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أهل اليمن فقال: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس) متفق عليه (3).
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في مسائله على هذا الباب: "وفيه أن من لم يوحد الله لم يعرفه"، مع أن الكلام على أهل الكتاب الذين معهم قدر من المعرفة، ولكنها معرفة لا تنجيهم طالما لم يعرفوا الله بالتوحيد.
وبهذا يتضح -بحمد الله تبارك وتعالى- سلامة منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله-، وعامة السلفيين في مسألة التوحيد والمعرفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وفي دراسة لجريدة الأهرام بعنوان: "السلفية بين الماضي والحاضر"، نُشر منها حلقتان في عددي الجمعة 24/ 10/2008، والجمعة 31/ 10/2008، وهي أشبه بتحقيق صحفي حول السلفية، استطلعت فيه آراء بعض العلماء والمفكرين فمن مؤيد ومن معارض، ومن هو بين بين، ومن جملة ما أوردته على لسان أحد المعترضين الاعتراض على هذه الجزئية بالاعتراض الأول والثاني. ونسأل الله أن ييسر تناول كل ما تناولته هذه الدراسة من اعتراضات.
(2) وطالما أن الكلام يتعلق بالسلفية، فمن المناسب أن نذكر أن الشيخ الألباني -رحمه الله- قد استخدم تلك الحجة في مواجهة من أنكر عليه التسمي باسم "السلفية"، فقرره بلزوم الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، وإنه بدون هذا القيد الأخير فسوف لا يتميز منهجنا عن كل المذاهب البدعية أو جلها على الأقل.
ثم بعد هذا التقرير سأله: هل يوجد مانع شرعي من اختصار هذه الجملة الطويلة: "أنا مسلم أتبع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة" بكلمة واحدة هي: "أنا سلفي"؟؟
¥