ولقد سئلت عن هذه المسألة كثيرا فكنت أجيب بما أعتقده فيها ,وخصصت لهذا الموضوع إحدى خطب الجمعة كان من أثرها تراجع أحد الأعمام الذين ضغطوا على ابن أخيهم وانتزعوا منه حصته وفق الوصية الواجبة , فأعيدت له حصة مهمة في عقار سكني بأحد أحياء دمشق كانت قد انتزعت منه , وذكرت هذه القضية في محاضرتي عن قانون الأحوال الشخصية بين الإفراط والتفريط بالمركز الثقافي في داريا , وقد حضرها بعض العلماء ورجال القضاء الشرعي.
وهذه خلاصة ما انتهيت إليه سائلا الله عز وجل العون والحفظ من الزلل في القول والعمل.
أولا: ينبغي التفريق في هذه المسألة ونظائرها بين الترجيح الفقهي والحكم القضائي , فعند النظر في استدلال واضعي القانون للوصية الواجبة تثور في النفس جملة من المناقشات والاعتراضات على استدلالاتهم , وأقوى ما رأيته في نقد الوصية الواجبة وأشده ما كتبه أستاذنا الدكتور أحمد الحجي الكردي في كتابه الأحوال الشخصية (ص 190 _192) ولست الآن في صدد ذكر الأدلة ومناقشتها , ولكن حسبي أن أذكر أن المسألة تبقى اجتهادية داخلة تحت قواعد الاجتهاد ,وليست مخالفة لنص لامناص من الوقوف عنده , فقد نص القانون على أنها وصية , وهي مذكورة في باب الوصايا وليس في باب المواريث , وهي فوق ذلك مشروطة بعدم إيصاء الجد للحفيد أو هبته له مايساوي الوصية في حياته من غير مقابل , وهذا شرط مهمٌ يغفل عنه منتقدوا القانون، والوصية المذكورة خاصة بأولاد الابن خلافا للقانون المصري الذي تطرف في ا لمسألة بالإيصاء إلى أولاد الابنة , وهي مخرّجة على قواعد بعض فقهاء المسلمين وليس على القواعد الوضعية للقوانين , وقد أقرها وأيدها جمهرة من علماء العصر الذين لا يشك في دينهم , وقد مضى على العمل بها في مصر والشام قرابة ستين عاما , وانتشر العمل بها في كثير من الدول الإسلامية بعد ذلك , فهي ليست قرارا سياسيا لدولة معينة أو حاكم أو حزب , ولم يبق إلا كونها اجتهادا يرفضه بعض العلماء ,فإذا علمنا أن الاجتهاد وإن كان ضعيفا يعمل به إذا حكم به القضاء , عند جمهور الفقهاء , مادام اجتهادا مخرجا على قواعد الاجتهاد , علمنا أن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسألة من الناحية العملية, ويبقى الأمر متعلقا بالترجيح الفقهي, ولا مانع من أن يتمسك كل فريق بما يراه صوابا ويقيم الدليل على ذلك وفق مناهج أهل العلم.
ثانيا:إن غالب المستحقين لهذه الوصية وفق القانون هم من الصغار الأيتام المحتاجين، وفي حكم القضاء لهم بهذه الوصية حقٌ , أو شبهة حق إذا سلمنا بضعف دليلها , وفي حال وجود هذه الشبهة لا يحل الإفتاء للأعمام بحرمان أولاد أخيهم منها , فعند النزاع مع الأيتام فإنه ينبغي الخروج من الخلاف لا الهجوم عليه, والله تعالى يقول: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا)
وإذا لا حظنا ما آلت إليه أحوال المسلمين في هذا العصر من ضياع جلّ أحكام الإسلام وخصوصا أحكام بيت المال ونفقاته التي تحمل جميع الضعفاء والمحتاجين أدركنا مَدرَك الفقهاء الذين وضعوا القانون وأقروه وهم يرون هؤلاء المحرومين من الميراث لا معيل لهم ولا شفيق عليهم , فكانت الوصية بالشروط السالفة مخرجا شرعيا ساقهم إليه الاجتهاد وقد رأوا أنفسهم في موقع التشريع لسد هذه الحاجة.
إن هذا يذكرنا بما أفتى به فقهاء الشافعية بعد القرن الرابع الهجري بتوريث ذوي الأرحام – وهم من لا يرث بالفرض ولا بالتعصيب كالخال – إذا لم يوجد وارث سواهم , مع أن حكم المذهب عدم توريثهم وجعل التركة في بيت مال المسلمين , وذلك لما استقر من الخلل في إدارة بيت المال مما اقتضى تغير الاجتهاد للحفاظ على مقاصد الشرع ودفعا لمفسدة أكبر من أختها , وهذا اختلا ف عصر وأوان وليس اختلاف حجة وبرهان. والمسلمون اليوم لا يملكون إلا قانون الأحوال الشخصية في جل العالم الإسلامي لتحقيق المصالح ودفع المفاسد
ثالثا:إن إفتاء الشيوخ الأفاضل بمقتضى مذاهبهم خلافا للحكم القضائي في هذه المسألة وغيرها ينشىء خللا كبيرا في المجتمع وصراعا بين أفراد الأسرة الواحدة , كما أنه يحدث إرباكا من الناحية التنفيذية ,فالذي يفتي بعدم الاستحقاق هل يملك محكمة وسلطة تنفيذية لإمضاء الحكم؟! أم أنه يغري الناس بعضهم ببعض , بين حكم القاضي الشرعي في المحكمة وإفتاء الشيخ في المسجد؟!
رابعا: إن الاجتهاد داخلٌ في العديد من مسائل المواريث المحتملة , وبعضه أظهر من بعض , ومن أهمها الجد مع الإخوة , والمسألة المشتركة وغيرها , حتى العول الذي ذهب إليه الجمهور عند زيادة السهام على التركة فقد ذهب ابن عباس إلى عدم القول به أصلا مما يؤسس لمذهب إرثي مخالف لما ذهب إليه الجمهور.
فهل يسوغ للجد الذي شركه القانون مع الإخوة في التركة كما هو مذهب الجمهور أن يعتصم بفتاوى الحنفية ويرمي الإخوة بأنهم يتناولون مالا حراما لا يحل لهم؟! والإخوة بدورهم هل سيسلكون هذا المسلك في حال اعتماد قول الحنفية قضاءً ,ساعين للعمل بمذهب الجمهور الذي يورثهم مع الجد؟!
إن في هذا خللا واضحا لأن القضاء لايأخذ إلا بقول واحد في كل مسألة بعكس الفتاوى التي تتعددبعدد الأقوال.
والخلاصة:أنني أرى عدم جواز منازعة المستحقين للوصية الواجبة بالشروط التي نص عليها القانون عموما , وخصوصا إذا كانوا أيتاما أومحتاجين ,ما دام القضاء الشرعي يحكم لهم بذلك ,وهذا بغض النظر عن الترجيح الفقهي في المسألة , فما يذكر في حلقات الدروس ومدرجات الجامعات شيء ,وما يصدر حكما قضائيا شرعيا واجب الاتباع شىء آخر.
فإذا تغير الحكم القضائي فهذا أمر آخر تدور معه الأحكام.
والله تعالى أعلم
كتبه عبد القادر الخطيب الحسني
المحكم لدى المحاكم الشرعية بدمشق, وأستاذ العلوم الشرعية بمعاهدها
¥