أولاً: أن تكثر الوسائل، والطرق، إلى الإخبار عما في النفس، فربما نسى أحد اللفظين، أو عام عليه النطق به، وقد كان بعض الأذكياء ـ ويقصد به واصل ابن عطاء (13) ألثغ، فلم يحفظ عنه أنه نطق بحرف الراء، ولولا المترادفات تعينه على قصده لما قدر على ذلك.
ثانياً: التوسع في سلوك طرق الفصاحة، لأن اللفظ الواحد قد يتأتى باستعماله مع لفظ آخر السجع، والقافية والتجنيس.
ثالثاً: ذهب بعض الناس إلى أن الترادف على خلاف الأصل، والأصل هو التباين، وبه كما يقول الإمام السيوطي ـ جزم البيضاوي في منهاجه.
رابعاً: قد يكون أحد المترادفين أجلى في تعبيره من الآخر، وقد ينعكس الحال بالنسبة لقوم آخرين.
خامساً: أورد السيوطي تقسيماً لعالم اسمه " ألكيا " وهو اسم غريب وتقسيم كما يقول السيوطي غريب؛ يقول: تنقسم الألفاظ إلى متوارد كما تسمى الخمر عقارا، وصهباء، وقهوة، والمترادفة مثل صلح الفاسد، ولم الشعث.
سادساً: أثبت السيوطي المترادف بنماج لمن استقصوا أو حاولوا استقصاء أسماء العسل، والسيف، وكأنه بذكره لهذه الأسماء، يرى أن القائلين بإنكار الترادف يتمحلون في وضع العلل.
ثانياً: التطبيق:
حينما ننظر لكلمات مثل (الهمم، والغم، والحزن)، نجد أن جذر المعنى الذي تجتمع عليه الكلمات الثلاث هو ما يعتري النفس من كدر، وعدم رضى، مع تفاوت وتمايز في دلالة كل كلمة منها.
وأبدأ بكلمة الحزن التي تتخذ في معاجم اللغة دلالات، ويفسره صاحب المعجم الوسيط بمرادفه وهو اُغتم (14)، وابن فارس في مقياسه اللغوي (15) تجاوز تعريفه للحزن وقال هو معروف؛ يُقال أحزنني الشيء يحزنني، وحزانتك أهلك ومن تحزن عليهم، ووجدت الشريف الجرجاني (16) يعرف الحزن، ويربطه بالماضي: ((عبارة عما يحصل لوقوع مكروه، أو فوات محبوب في الماضي .. )).
والواقع أننا حينما نبحث عن مترادفات الحزن نجدها متعددة، وكلمات عدة تؤدي المعنى الذي ذكرته آنفاً فعند علماء اللغة تقول: ((غمني، أحزنني وشجاني، وشجنني، وأشجنني، وعزّ عليّ، وشق عليّ، وعظم عليّ، واشتد عليّ)) ويُقال: ((ورد فلان خبر، فحزن له واغتم، وأسى، وشجى، وشجن، وترح، ووجد ونكد، وكئب، واكتأب، واستاء، وابتأس، وجزع وأسف، لهف، والتهف، والتاع، والتعج، وارتمض ... )) (17). وهي كلمات كما ترى تحمل كل واحدة منها دلالة، لا يمكن في تصوري أن تلتقي كلمتين منها التقاءً تاماً فلكل واحدة منها ظلالاً معينة وبما أننا قد اخترنا، الثلاث كلمات السابقة، فلنتابع الحديث عنها.
فالغم كما يقول ابن فارس ((الغين والميم أصل واحد صحيح يدل على تغطية، وإطباق، ويُقال: غمه الأمر يغمه غماً. وهو شيء يغشى القلب .. )) (18) وفي الوسيط يدور حول التغطية .. (19) وهي دلالة كما فهمت أعمق إذ أن الهم يتغشى الفؤاد، ويضيق الخناق على المغموم، وكأنه قد غطاه تماماً فلا يستطيع أن يتنفس، وبخلاف الحزن، فهو مرحلة متقدمة ماضية، قد انجلى الضيق ولم يبق منه إلا بقايا من الحزن. ((وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)).
وبرغم أن ابن فارس ممن يقولون بإنكار الترادف، فهو يفسر لنا الكلمة بمرادفها فهو يعرف الهم بأنه الحزن ويقول ((الهاء والميم أصل صحيح يدل على ذوب وجريان وما أشبه ذلك ومنه قول العرب: همني الشيء، أذابني والهم الذي هو الحزن عندنا من هذا القياس، لأنه كأنه لثلاثة يهم، أي يذيب)) (20).
ومن تتبع دلالات الكلمات الثلاث تستطيع أن نخرج بفائدة تنوع دلالاتها، ولعل وضوحها هو الذي دفع بابن فارس إلى تجاوز توضيح الفروق بينها، وهو الذي جعل لغوياً مثل الثعالبي وأبي هلال العسكري لا يوضحون الفرق بينها (21) وربما كان الأمر على خلاف ما فهمت، والذي يتراءى لي ـ وهو رأي شخصي قابل للنقض ـ أن الترادف غير ممكن في العربية، وأن القول بوجوده يتعارض مع عظمة العربية، واتساع قاموسها، ولو سلمنا للقائلين بالترادف لسفهنا بطريقة أو بأخرى علماء اللغة، الذين جمعوا اللغة من مضانها، ومن أفواه العرب ووقعنا في عبثية لفظية، تنزه اللغة العربية عنها، وأمرٌ آخر يدعم القول بإنكار الترادف، وهو النماذج التي أوردت في ثنايا البحث، فإن في كل كلمة ذكرت آنفاً دلالة، وإيحاء، حتى على افتراض توحد منطلقها المعنوي.
وبعد .. فلا أزعم أنني ألممت بأطراف البحث في هذه القضية، التي شغلت الباحثين في مجال اللغة حتى من علماء اليونان، وعلماء اللغة السنسكريتية القديمة، وحسبي أني أطللت بالقارئ الكريم على أبعاد هذه القضية، التي تتخذ أهميتها من ارتباطها بقاموسنا اللغوي الكبير الذي نعتز به .. والحمد لله أولاً وآخراً.
(1) الفروق اللغوية / أبو هلال العسكري / ص12، 13، ط مكتبة القدس 1353هـ، القاهرة.
(2) المرجع السابق ص13.
(3) المرجع السابق ص14.
(4) المرجع نفسه.
(5) الصاحبي في فقه الله / أحمد بن فارس ص 65 طبعة القاهرة /1328هـ.
(6) المزهر / السيوطي جـ1 ص400.
(7) المرجع نفسه.
(8) المرجع نفسه، جـ1 ص 406.
(9) النص في المزهر، 1/ 406، وكتاب الترادف للزيادي، ط وزارة الثقافة 1980م.
(10) المزهر، 1/ 406 .. " بسط لأسماء السيف ".
(11) الترادف، حاكم الزيادي، ص220.
(12) المزهر، 1/ 406.
(13) تجد قصته في البيان والتبيين، جـ1، ص10، ط دار الكتب العلمية، لبنان، بدون تاريخ.
(14) المعجم الوسيط، مجمع اللغة بالقاهرة، جـ1 ص177، ط3، دار عمران.
(15) مقاييس اللغة، ابن فارس، تح عبدالسلام هارون، جـ1 ص54، ط1 1366 القاهرة.
(16) التعريفات، علي محمد الجرجاني، مخطوط، ص59، بدون تاريخ ولم أجد مكان الطبع.
(17) انظر نجعة الرائد في المترادف والوارد، إبراهيم اليازجي، ط لبنان ط2، 1970، جـ1، ص199.
(18) مقاييس اللغة، 4/ 376.
(19) المعجم الوسيط: 2/ 685.
(20) مقاييس اللغة: جـ6/ 13.
(21) لم أجد في فقه اللغة للثعالبي، وفي الفروق لأبي هلال إشارة إلى الفرق بينها.