قال ابن مسعود: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، سرج الليل، مصابيح الظلام، تعرفون في أهل السماء، وتخفون على أهل
الأرض.
طوبى لعبدٍ بحبلِ الله مُعْتَصَمُه
على صراطٍ سَويٍّ ثابتٍ قدمُه
رثّ اللباس جديدِ القلب مُستترٍ
في الأرض مشتهرٍ فوقَ السما وَسْمُه
ما زال يستحقرُ الأُولَى بِهمَّته
حتى ترقّى إلى الأخرى به هِمَمُه
فداك أعظمُ من التاج مُتّكئاً
على النمارق مُحتفّاً به خَدَمُه
واعلم أن محبة المساكين لها فوائد كثيرة، منها: أنها توجب إخلاص العمل لله عز وجل، لأن الإحسان إليهم لمحبتهم لا يكون
إلا لله عز وجل، لأن نفعهم لا يرجى غالباً. فأما من أحسن إليهم ليمدح بذلك فمل أحسن إليهم حباً لهم بل حباً لأهل الدنيا، وطلباً لمدحهم له بحب المساكين.
ومنها: أنها تزيل الكبر، فإن المستكبر لا يرضى مجالسة المساكين كما سبق عن رؤساء قريش والأعراب ومن حذا حذوهم من هذه الأمة ممن تشبه بهم، حتى إن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف.
ويمتنع بسبب هذا الكبر خير كثير جداً، فإن مجالسة الذكر والعلم يقع فيها كثيراً مجالسة المساكين، فإنهم أكثر هذه المجالس، فيمتنع المتكبر من هذه المجالس بتكبره، وربما كان المسموع منه الذكر والعلم من جملة المساكين، فيأنف أهل الكبر من التردد إلى مجلسه كذلك يفوتهم خير كثير. وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنهم قالوا:) لولا نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القريتين عظيم (الزخرف: 31 يشيرون إلى عظماء مكة والطائف كعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة ونحوهما من صناديد قريش وثقيف ذوي الأموال والشرف فيهم ممن كان أكثر مالاً من محمد) وأعظم رياسة عندهم، ورد عليهم سبحانه بأنه يقسم رحمته كما يشاء، وأنه كما رفع درجات بعضهم على بعض في الدنيا فكذلك يرفعها في الآخرة، وأن رحمته بالنبوة والعلم والإيمان خير مما يجمعونه من الأموال التي تفنى، فهو يخص بهذه الرحمة الدينية من يشاء ويرفعه على أهل النعم الدنيوية، وقد خص محمداً) بما لم يشركه غيره من هذه النعم كما قال تعالى:) وأنزل الله عليك الكتابَ والحكمةَ وعلَّمكَ ما لم تكنْ تعلمُ وكانَ فضلُ الله عليك عظيماً (النساء: 113.
وقد كان علي بن الحسين يجلس في مجلس زيد بن أسلم فيعاتب على ذلك فيقول: إنما يجلس المرء حيث يكون له فيه نفع. أو كما قال: يشير إلى أنه ينتفع بسماع ما لم يسمعه من العلم والحكمة، وزيد بن أسلم أبوه مولى لعمر، وعلي بن الحسين سيد بني هاشم وشريفهم.
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 17
اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى
ابن رجب
الصفحة: 18
ولما اجتمع الزهري وأبو حازم الزاهد بالمدينة عند بعض بني أمية لما حجّ وسمع الزهري كلام أبي حازم وحكمته أعجبه ذلك، وقال: هو جاري منذ كذا وكذا، وما جالسته وما عرفت أن هذا عنده!. فقال له أبو حازم: أجل إني من المساكين، ولو كنت من الأغنياء لعرفتني فوبخه بذلك. وفي رواية عنه أنه قال له: لو أحببت الله أحببتني، ولكنك نسيت الله فنسيتني. يشير إلى أن من أحب الله تعالى أحب المساكين من أهل العلم والحكمة لأجل محبته لله تعالى، ومن غفل عن الله تعالى غفل عن أوليائه من المساكين فلم يرفع بهم رأساً، ولم ينتفع بما اختصهم الله عز وجل به من الحكمة والعلوم النافعة التي لا توجد عند غيرهم من أهل الدنيا.
وقد كان علماء السلف يأخذون العلم عن أهله والغالب عليهم المسكنة وعدم المال والرفعة في الدنيا، ويدعون أهل الرياسات والولايات فلا يأخذون عنهم ما عندهم من العلم بالكلية.
ومنها: أنه يوجب صلاح القلب وخشوعه، وفي المسند عن أبي هريرة أن رجلاً شكى إلى رسول الله) قسوة قلبه، فقال له: "إن أحببت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم".
¥