[قاعدة" مراعاة المآل والأحوال"]
ـ[فادي بن ذيب قراقرة]ــــــــ[30 - 03 - 08, 09:51 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإنَّ من أهم ما يتعيّن على الفقيه المصلح ـ الداعية إلى منهج السلف ـ إدراكه وفهمه؛ قواعد الدين الكلية، ومقاصد التشريع العامة، التي يتوقف فهم الأحكام عليها، ويُحتاج في تنزيلها ـ الأحكام ـ على الوقائع إليها. ومن ذلك معرفة الفقيه بأحوال الناس وأعرافهم وعاداتهم وواقعهم.
وكم ممن تصدَّر للفتيا والتعليم أغفل هذا الباب، وأصدر أحكاماً مجرّدة، فوقع ـ وأوقع ـ بخلاف الحق في مسائل عديدة، وكان من أضرِّ الخلق على أديان الناس، وجنايته أعظم من جناية الطبيب الغافل على أبدانهم.
فليس من الفقه والبصيرة في الدين إجابة المستفتي بحكم شرعي ـ وإن كان حقاً ـ دون تقدير لمآل تلك الفتوى وما يترتب عليها من المصالح والمفاسد.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين إغفال ما يتعلق بمآلات الأفعال من قواعد؛ كقاعدة سد الذرائع، وإن كان الحكم متعلقاً ـ في أصله ـ بمباح بيّن الإباحة.
وليس من الفقه والبصيرة في الدين الجمود على ما كتبه الفقهاء ـ قديماً ـ في بعض المسائل ـ مراعاة لوقائع معينة، أو أعراف ـ صحيحة ـ متبدلة، أو عوائد متغيّرة، ومن ثم تنزيل تلك الأحكام على وقائع غيرِ تلك الوقائع، وأعرافٍ وعوائدَ تغيرت واختلفت.
وعليه فواجب على المفتي والفقيه والمعلم وغيرهم ممن تصدر للدعوة والتربية على منهج السلف الصالح "النظر إلى مآلات الأقوال والأفعال في عموم التصرفات، وعليه أن يقدر مآلات الأفعال التي هي محل حكمة وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه، ولا يعتقد أن مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي، بل عليه أن يستحضر مآلات ما يفتي به وآثارَه وعواقبَه" "الأصول العامة والقواعد الجامعة للفتاوى الشرعية" د. حسين آل الشيخ.
هذا ما سأوضحه ـ إن شاء الله ـ من خلال عرض هذه القاعدة العظيمة، وأدلتها، وبعض تطبيقاتها؛ الفقهية والمنهجية.
قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (5/ 177):
"النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً؛ كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع؛ لمفسدة تنشأ عنه، أومصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها؛ فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجالٌ للمجتهد صعبُ المورد؛ إلا أنه عذبُ المذاق، محمودُ الغبِ، جارٍ على مقاصد الشريعة " ا. هـ
الأدلة على صحة هذه القاعدة:
أولاً: من الكتاب والسنة الصحيحة:
(1) قوله ـ تعالى ـ:" وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ" الآية. [الأنعام: 108]
قال الإمام البغوي ـ رحمه الله ـ:"فظاهر الآية، وإن كان نهيا عن سب الأصنام، فحقيقته النهي عن سب الله؛ لأنه سبب لذلك." ا. هـ
وقال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ: " نهى سبحانه المؤمنين أن يسبوا أوثانهم ـ أي: الكفار ـ؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا ... قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة، وخيف أن يسب الإسلام أو النبي ـ عليه السلام ـ أو الله ـ عز وجل ـ، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، ولا دينهم، ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية ... وفي الآية دليل على وجوب الحكم بسد الذرائع، وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين." ا. هـ
¥