بلا طلب! والواقع يكذّبهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لو أنّ ابن آدم هرَب من رزقه كما يهرب من الموت لأدرَكَه رزقه كما يدركه الموت} صحيح الجامع. انظر (حقيقة الأرزاق المتدفقة).
إذًا لماذا حثّ الشرع على السعي والتكسّب؟ وذلك في نصوص عديدة، ونحن نعلم أنّ الشرع لا يستحبّ شيئًا إلاّ لمصلحة راجحة فيه، والمصلحة هنا ظاهرة وهي قيام مصالح الناس بالزراعة والصناعة والتجارة وغيرها، فالحاجة وحبّ المال والغنى والجاه هي من أقوى الدوافع المحرّكة للإنسان، هذا مع حاجته للأسباب المادّية المحسوسة سواء في حصول الرزق أو القوّة أو الشفاء من المرض وغير ذلك، وشرعنا الكامل الشامل لم يهمل هذا الجانب بل أحاطه بما يستحقّه من التوجيه والضبط، انظر موضوع (الأرزاق والأعمال) في كتاب (الفوائد الجامعة).
والمضاربة بشراء وبيع الأسهم والعملات وأمثالها لا تقدّم أيّ فائدة للمجتمع ولا تقوم بها أيّ مصلحة للناس؛ فلا هي زراعة ولا صناعة ولا هي تجارة بالمعنى المعروف الذي يقوم على توفير السلع والبضائع النافعة للناس، ولقد دلّت النصوص على أنّ هذا النوع من الأعمال لهوٌ ولعبٌ باطل؛ قال الله تعالى في الحديث الإلهي: {يا ابن آدم تفَرّغ لعبادتِي أملأ صدرك غِنًى وأسدّ فقرك، وإن لا تفعل مَلأتُ يديك شُغْلاً ولم أسدّ فقرك} صحيح الجامع والعبادة هنا تشمل العبادة بمعناها العام وهي كلّ عمل صالح بنيّة صالحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلّ شيءٍ ليس من ذِكْر الله لهوٌ ولَعِبٌ إلاّ أن يكون أربعة؛ ملاعبة الرجل امرأته، وتأديب الرجل فَرَسَه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعليم الرجل السباحة} صحيح الجامع، وذكر الله هنا يشمل كلّ عمل صالح بنية صالحة، وهذه الأربعة تشمل أمثالها كما ذكرت في موضوع (النفساء والرياضة) في كتاب (طريق العافية)، وقال صلى الله عليه وسلم: {كلّ ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلاّ رميةً بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله} صحّحه الترمذي والألباني، {إنّ الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلاّ ذِكْر الله وما والاه وعالِمًا أو متعلّما} صحيح الجامع، وذكر الله هنا هو العبادات التي لا يُراد بها إلاّ وجه الله تعالى والدار الآخرة كالصلاة والحج، وما والاه هو كلّ ما وافق الشرع وحقّق مقاصده.
والمضارب بشراء وبيع الأسهم وما شابه ذلك لا يقدّم أيّ فائدة من هذا العمل مقابل الفائدة التي يحصل عليها، وهو بذلك أشبه بآكل الربا الذي لم يقدّم أيّ فائدة حقيقية مقابل ما يأخذه، بينما نرى في كلّ صور الكسب المشروع أنّ العامل يقدّم بعمله نفعًا لغيره مقابل كسبه {وخير الناس أنفعهم للناس} صحيح الجامع. وكل صور الكسب المشروع تقوم على مبدأ أَربح تربح؛ أي النفع المتبادل للعامل وغيره بما فيها التجارة المعروفة، بينما تقوم المضاربة في الأسهم على مبدأ أربح تخسر؛ فما يربحه بعض المضاربين هو خسارة لمضاربين آخرين أو مساهمين، وقد حرّم الإسلام المعاملات القائمة على هذا المبدأ كالربا وبيع العينة.
أما الذين أجازوا المضاربة في الأسهم فقد نظروا إلى أصل جواز البيع، ولم ينظروا إلى علّة الربا ومفسدته الظاهرة في هذه المضاربة، ولم ينظروا إلى مقاصد الشريعة في الكسب المشروع، ولا شك أنّ هذا قصور في النظر، فالمضاربة تشبه بيع العينة في كل هذه الجوانب؛ فكلاهما بيع، وكلاهما فيه مفسدة الربا، ولا تقوم بهما أيّ مصلحة للناس.
وعليه فإنّ المضارب في الأسهم وأمثالها هو آكل للربا إذا ربح وموكل للربا إذا خسر، ولكنه يُعذر بجهله السابق فلا يأثم لو كان حريصًا على اجتناب الحرام ولم يقدّم هوى نفسه على مرضاة ربه، وبعض الناس يعلم بكلام العلماء على هذا العمل أنه ربا وغرَر، ولكنه قدّم هوى نفسه على مرضاة ربه {أوَليس الله بأعلم بما في صدور العالمين؟}.
ومن المعلوم أنّ شراء أسهم الشركات بقصد المشاركة فيها والحصول على نسبة من أرباحها السنوية أو نصف السنوية يختلف تمامًا عن المضاربة بشراء وبيع الأسهم، فهو شراكة في هذه الشركات لها أحكام الشراكة ويتأثّر حكمها بعمل هذه الشركات إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشرّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا عُمِلت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكَرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرَضيها كان كمن شهدها} صحيح الجامع، فمن اشترك في شركةٍ فيها ربًا فهو كمن رضي به وإن كان كارهًا له في قلبه فالإنكار الصادق هو ما ظهر أثره على الوجه والتصرّفات نفورًا مما يبغضه الله سبحانه وتعالى، وكذلك الشركات التي يكون ضررها أكثر من نفعها فانتبه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{إنك لن تدَعَ شيئًا اتقاء الله عزَّ وجلَّ ألاَّ أعطاك الله خيرًا منه}
رواه أحمد وصحّحه الأرنؤوط والألباني.
وبالله التوفيق
والحمد لله ربّ العالَمين
كتَبه/ محمّد بن أحمد التركي
mhmdahmd.jeeran.com
8 - 8 - 1426
http://mhmdahmd.jeeran.com/r-s.html
¥