فإن لنا وجهة نظر مخالفة للقرار الصادر بالأغلبية من (هيئة كبار العلماء) في شأن جواز السعي فوق السقف الكائن فوق المسعى والصفا والمروة، وحاصل وجهة نظرنا في ذلك هو:
أنا لا نرى جواز تعدد المسعى وإباحة السعي في مسعيين: مسعى أسفل، ومسعى أعلى؛ وذلك للأمور الآتية:
الأمر الأولى: أن الأمكنة المحددة من قبل الشرع لنوع من أنواع العبادات لا تجوز الزيادة فيها ولا النقص إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة.
الأمر الثاني: أن الأمكنة المحددة شرعًا لنوع من أنواع العبادات ليست محلاً للقياس؛ لأنه لا قياس ولا اجتهاد مع النص الصريح المقتضي تحديد المكان المعين للعبادة، ولأن تخصيص تلك الأماكن بتلك العبادات في دون غيرها من سائر الأماكن ليست له علة معقولة المعنى حتى يتحقق المناط بوجودها في فرع آخر حتى يلحق بالقياس، فالتعبدي المحض ليس من موارد القياس.
الأمر الثالث: هو أنه لا نزاع بين أهل العلم في أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الوارد لبيان إجمال نص من القرآن العظيم له حكم ذلك النص القرآني الذي ورد لبيان إجماله.
فإن دلت آية من القرآن العظيم على وجوب حكم من الأحكام، وأوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - المراد منها بفعله - فإن ذلك الفعل يكون واجبًا بعينه وجوب المعنى الذي دلت عليه الآية، فلا يجوز العدول عنه لبدل آخر.
ومعلوم أن ذلك منقسم إلى قسمين كما هو مقرر في الأصول:
الأول منهما: أن تكون القرينة وحدها هي التي دلت على أن ذلك الفعل الصادر من النبي - صلى الله عليه وسلم - وارد لبيان نص من كتاب الله، كقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا. سورة المائدة، (الآية: 38).
فإن الآية تحتمل القطع من الكوع، ومن المرفق، ومن المنكب؛ لأن لفظ اليد قد يستعمل في كل ما ذكر، وقد دلت القرينة على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو: قطعه يد السارق من الكوع وارد لبيان قوله تعالى: فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا. سورة المائدة، (الآية: 38).
فلا يجوز العدول عن هذا الفعل النبوي الوارد لبيان نص من القرآن لبدل آخر إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة.
القسم الثاني من قسمي الفعل المذكور: هو أن يرد قول من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك الفعل الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - بيان لنص من القرآن؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا كما رأيتموني أصلي)؛ فإنه يدل على أن أفعاله في الصلاة بيان لإجمال الآيات التي فيها الأمر بإقامة الصلاة، فلا يجوز العدول عن شيء من تلك الأفعال الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان تلك الآيات القرآنية إلا بدليل من كتاب أو سنة يجب الرجوع إليه.
وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لتأخذوا عني مناسككم)؛ فإنه يدل على أن أفعاله في الحج بيان لإجمال آيات الحج، فلا يجوز العدول عن شيء منها لبدل آخر إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة.
وإذا علمت هذا؛ فاعلم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ. سورة البقرة، (الآية: 158).
فصرح في هذه الآية بأن المكان الذي علمه الصفا، والمكان الذي علمه المروة من شعائر الله. ومعلوم أن الصفا والمروة كلاهما علم لمكان معين، وهو علم شخص لا علم جنس، بلا نزاع ولا خلاف بين أهل اللسان في أن العلم يعين مسماه - أي: يشخصه - فإن كان علم شخص كما هنا شخص مسماه في الخارج - بمعنى: أنه لا يدخل في مسماه شيء آخر غير ذلك الشخص، عاقلاً كان أو غير عاقل -، وإن كان علم جنس شخص مسماه في الذهن، وليس البحث في ذلك من غرضنا.
وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكر الله في الآية أنه من شعائر الله هو شخص الصفا وشخص المروة، أي: الحقيقة المعبر عنها بهذا العلم الشخصي، ولا يدخل شيء آخر البتة في ذلك لتعين المسمى بعلمه الشخصي دون غيره، كائنًا ما كان، سواء كان الفراغ الكائن فوق المسمى المشخص بعلمه أو غير ذلك من الأماكن الأخرى. وإذا علمت ذلك فاعلم أن الله تعالى رتب بالفاء قوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا. سورة البقرة، (الآية: 158).
¥