وكذا التفصيل في كل دخل بالاستدراك وشبهه وإن كان وارداً على ألفاظ الدعوى والتصوُّرات لأن الألفاظ طرائق إفادة المعاني. وأما إذا اشتمل دليل المعلّل على فساد ما فأبطله السائل لسبب ثم قال: والصواب أن يقال كذا فهو ليس من قبيل تعيين الطريق. هذا ما لاح لي من تلويحات الأكابر فقيسوا ما لم يُذْكَرْ على ما ذكر.
التبكيت يجيء على معنيين:
• التوبيخ
• والغلبة
فقولك: بكَّتَه بتشديد الكاف إما بمعنى وبَّخَه أو بمعنى غلبه. وفسَّرَ التبكيت بالمعنى الثاني في الْمُطَوَّلْ بالإسكان والإلزام. هذا والتقريع والتعييب والتوبيخ واللوم كلها بمعنى واحد.
مجاراة الْخَصْم: وتسمى التماشي معه وإرخاء العنان إليه والمساهلة معه كذا في الْمُطَوَّلْ. حقيقتها أن السائل يزعم استلزام شيء شيئاً بناء على أنَّ الوهم يحكم ذلك الاستلزام أن ينكره.
والشيء الثاني يناقض دعوى المعلَّل بدعوى الشيء الأول لأنه يستلزم بزعمه ما يناقض دعوى المعَلِّل فللمعلل في الجواب عنه أمران.
الأول: إثبات مدَّعاه بدليل آخر وترك الالتفات إلى ما عارض به السائل وهذا معارضة على الْمُعارَضَة ويأتي بحثها في آخر الرسالة.
الأمر الثاني تسليم دعوى السائل ومنع الاستلزام وهذا مجاراة الْخَصْم وهذا أشد تأثيراً في تبكيت الْخَصْم وإسكاته لأن السائل ادعى شيئاً لا مجال للمُعَلِّل أن ينكره. ويستلزم ذلك الشيء في زعمه ما يناقض مدعى المْمُعَلِّل. فشبهة السائل لا تزول بإثبات الْمُعَلِّل مُدَّعاه بدليل آخر لأنه يقول:
بعدُ ذلك الإثبات الشيءُ الفلاني ثابت لا مجال لأن تنكره وهو يستلزم نقيض مُدَّعاك.
فشبهة السائلِ لا تنقطع إلا بطريق المجاراة.*
فإن قلت:
أليس للمعلل هنا وظيفة أخرى وهي مَنْع ما ادّعاه السائل؟
قلت:
لا مجال للمعلّل أن يمنعه هنا! لأن المفروض أنَّ ما ادعاه السائل مما لا مجال للمُعَلِّل أن ينكره.
قال صاحب الإيضاح في تمثيل المجاراة:
"كما إذا قال لك من يناظرك:
" أنت من شأنكَ كيت وكيت!
فتقول:
نعم، أنا من شأني كيت وكيت، ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظَنَنْتَ أنه يلزم"".
(وقال أيضاً):
وأما قوله تعالى حكاية عن الرسل ?إنْ نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده? فمن مُجاراة الْخَصْم التبكيت.
فالرسل عليهم السلام كأنهم قالوا:
"إنَّ ما قلتم من أنَّا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره، ولكن ذلك لا يمنع أن يكون قد مَنَّ الله علينا بالرسالة" انتهى.
وتوضيحه أن الكفار توهموا أن البشرية تنافي الرسالة وأن الرُسُل لا تكون إلا من الملائكة. وإن شئتَ قلتَ:
توهموا أن البشرية تستلزم عدم الرسالة وسبب ذلك التَّوَهُّم منهم استعظامهم أمر الرسالة. فالرسل لما ادَّعوا الرسالة عارضهم الكفار بقولهم:
"إن أنتم إلا بشر مثلنا"
فأجابتهم الرسل بطريق المجارات كما عرفت. وكان يكفي الكفار في الْمُعارَضَة أن يقولوا:
) أنتم بشر مثلنا (بدون الْحَصْر، لكن الْحَصْر للتأكيد فتأمل.
ثم أن ظاهر قول الرسل:
) إِن نحن إلا بشر مثلكم (بتسليم الْحَصْر تسليم لانتفاء الرسالة لأن ذلك مفاد الْحَصْر فينافي ذلك قولهم:
) ولكن الله يمنُّ (. الآية.
فالظاهر أن يقولوا:
) نحن بشر مثلكم (لئلا ينافي مَنْع الْمُلازَمَة. وأجاب عنه في الْمُطَوَّلْ بأن تسليم البشرية بطريق القصر ليكون على وفق كلام الْخَصْم كما هو دأب المناظرين انتهى.
ومعناه أنًّ القَصْرَ غير مراد في التسليم وإنما ذُكِرَ للمُشاكَلَة.
يقول الفقير:
هذا الجواب من الرسل أبلغ من جواب عيسى عليه السلام بقولهم ?ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون ? بعد قول الكفار:
"ما أنتم إلا بشر مثلنا" لأن ذلك ليس منه مُجاراة بل في مقام الْمُعارَضَة على الْمُعارَضَة. إن قلتَ قالَ في التلخيص*
وقولهم: "إن نحن إلا بشر مثلكم" من باب مجاراة الْخَصْم ليَعْثُر حيث يراد تبكيته.
وقال في الْمُطَوَّل في بيان ليَعْثُرَ من العَثار وهو الزلَّة لا من العُثور وهو الإطلاع انتهى.
فما معنى الزلة هنا؟
قلت: الزلَّة الزلق وزوال الثبات. والخصم لما لم يثبت على سؤاله عند المجاراة بل سكتَ وأُلْزِمَ فكان كأنما زلَّتُ قدمُه عن مكانها.
يقول الفقير والمجاراة كثيرة في أجوبة المصنفين حيث يقولون نعم ولكن الأمر كذا.
¥