وجاز حجر المغنّي الماجن صيانة لدين الناس، والحجر على الطبيب الجاهل حرصاً على أرواحهم، وعلى المكاري (13) المفلس حرصاً على أموالهم وأوقاتهم، وكذا جاز التسعير على الباعة دفعاً لضررهم عن العامة أو بيع أموال المحتكرين المحتكَرة وإن أضرهم ذلك دفعاً لضرر الاحتكار عن العامة.
8 - درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع (14):
فإذا تعارضت مفسدة ومصلحة قُدّمَ رفع المفسدة؛ لأن اعتناء الشرع بالمنهيات أشد من اعتنائه بالمأمورات، والمراد بدرء المفاسد ورفعها وإزالتها لما يترتب على المفاسد من ضرر جسيم ينافي حكمة الشارع في النهي.
ودليل هذه القاعدة قوله لله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم) (15).
ومن أمثلة هذه القاعدة:
منع التجارة في المحرمات من خمر ومخدرات وخنزير، ولو أن فيها أرباحاً ومنافع اقتصادية.
منع مالك الدار من فتح نافذة تطل على مقر نساء جاره؛ ولو كان فيها منفعته.
منع الجار من التصرف في ملكه تصرفاً يضر بجيرانه؛ كاتخاذ معصرة أو فرن يؤذي الجيران بالرائحة أو الدخان.
ومثل هذه القاعدة قولهم: (إذا تعارض المانع والمقتضي يُقدّم المانع، إلا إذا كان المقتضي أعظم) والمراد بالمقتضي هنا: الأمر الطالب للفعل؛ فوجود المانع يمنع من الفعل غالباً.
وقولهم أيضاً: (إذا اجتمع الحلال والحرام أو المبيح والمحرم غلب الحرام).
9 - الحاجة تنزل منزلة الضرورة (عامة أو خاصة) (16):
ومن هذا القبيل جوزت الإمارة على خلاف القياس؛ لأن المعقود عليه وهو المنفعة معدوم؛ والقياس البطلان؛ ومنه تجويز السّلَم على خلاف القياس؛ لكونه بيع معدوم دفعاً لحاجة المفاليس، ومنه جواز الاستصناع، والدخول إلى الحمام بأجرة مع جهالة مكثه فيه وجهالة ما يستعمل من الماء.
ومنه أيضاً تجويز بيع الوفاء لمّا كثرت الديون على أهالي بخارى ومست الحاجة إلى ذلك مع أن بيع الوفاء (17) غير جائز أصلاً.
شرح القاعدة:
الضرورة أشد درجة ودافعاً من الحاجة.
الضرورة: ما يترتب على عصيانها خطر كما في الإكراه الملجئ، وخشية الهلاك جوعاً.
الحاجة: ما يترتب على عدم الاستجابة إليها عسر ومشقة وصعوبة.
والمراد بكونها عامة: أن يكون الاحتياح شاملاً جميع الأمة.
والمراد بكونها خاصة: أن يكون الاحتياج لطائفة منهم كأهل بلد أو حرفة، وليس المراد بخصوصها كونها فردية. وعلى هذا يكون معنى القاعدة: أن التسهيلات التشريعية الاستثنائية لا تقتصر على حالات الضرورات الملجئة، بل حاجات الجماعة مما دون الضرورة توجب التسهيلات الاستثنائية أيضاً (18).
الخاتمة:
لقد حرص الإسلام على رفع الضرر عن العبد بعد وقوعه، كما حرص على دفعه قبل وقوعه بشتى الوسائل والأساليب الناجعة والإجراءات والتدابير الرادعة؛ مما يحقق للعبد المصلحة، ويدفع عنه المفسدة وفقاً لنظرية المصالح والمفاسد التي تقتضيها المقاصد الشرعية لحفظ نفس العبد ودينه وعرضه وعقله وماله.
ومن هنا نجد أن قاعدة: (الضرر يزال) هي قاعدة هامة جداً لتحقيق المقاصد الشرعية؛ حيث تقتضي تحقيق المصلحة ودفع المفسدة وهي ما تقتضيها قواعدها الفرعية التي تبين معنى الضرر وكيف تكون إزالته؟ وتبين حالات الضرورة ومتى يفعل العبد المحظور من أجلها؟ كما أن قاعدة درء المفاسد أوْلى من جلب المنافع التي بينت لنا أن الإنسان لا يجوز له أن يلحق الضرر بغيره مقابل انتفاعه هو بحقه؛ وهذا ما اصطلح عليه شراح القانون الحديث اليوم بنظرية (التعسف في استخدام الحق) والتي بينت المسموح والممنوع في استخدام الحق.
ومن هنا نلحظ أن هذه القواعد توفر للعبد الراحة، وتبين له ما يجب عليه فعله وما لا يجب متى كان هذا الفعل يلحق الضرر بالآخرين، وإن كان حقاً خالصاً له؛ فهذه القواعد تنظم شؤون العباد وتضع الأسس المثلى والضوابط الجيدة لتعامل بعضهم مع بعض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية د. محمد صدقي بن أحمد البورنو ص77، وانظر المدخل الفقهي العام، الأستاذ أحمد الزرقاء ج2 ص977.
(2) الأشباه والنظائر. زين العابدين بن إبراهيم بن نجيم ص85.
(3) المدخل الفقهي: الزرقاء ص978. الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية: البورنو ص78
(4) الأشباه والنظائر. للسيوطي ص84.
(5) المدخل الفقهي: الزرقاء ص979 بتصرف. (6) المرجع السابق نفسه بتصرف.
(7) غمز عيون البصائر: أحمد بن محمد الحنفي الحموي ص 276: المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 995، الأشباه والنظائر: جلال الدين السيوطي.
(8) شرح المجلة: سليم رستم. المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 996.
(9) الوجيز ص 82 شرح المجلة 31.
(10) أشباه ابن نجيم ص 89.
(11) أشباه ابن نجيم ص 89.
(12) الوجيز ص 85. أشباه ابن نجيم ص 87، المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 984.
(13) المكاري (بضم الميم) هو الذي يتعاقد مع راغبي السفر لنقلهم أو نقل أمتعتهم على دوابه وهو يشبه في وقتنا الحاضر مركز السفريات والنقل. (14) شرح المجلة: سليم رستم ص 31. أشباه السيوطي ص 87.
(15) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337).
(16) شرح المجلة: سليم رستم ص 33، أشباه ابن نجيم ص 91، أشباه السيوطي ص 88.
(17) انظر المدخل الفقهي العام: الزرقاء ص 544 في تعريف بيع الوفاء وهو عقد توثيقي صورة بيع على أساس احتفاظ الطرفين بحق التراد في العوضين، فهو عقد مزيج من بيع ورهن ولكن أحكام الرهن فيه غالبة.
(18) المدخل الفقهي العام: الزرقاء
¥