تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فمن كان متحققاً باليقين؛ فإنه عند المصيبة يكون رابط الجأش، ثابتاً، صابراً، حابساً للسانه عن التسخط، ولجوارحه عن فعل ما لا يليق من شق جيبٍ، أو لطم خدٍ، أو نحو ذلك مما يفعله من لا يقين عندهم، فهذه أمور قد لا تتبين في حال الرخاء، وإنما تتبين في حال الشدة والمصائب. ولربما أبتُلي العبد المؤمن، فسخط على ربه أن ابتلاه بهذا البلاء، والله عز وجل ابتلاه ليمحصه ولم يُبتل ليهلك. ابتلاك الله عز وجل ليرفعك من درجة إلى درجة، ومن منزلة إلى منزلة، وتُبّلَّغ بهذا البلاء منازل عند الله عز وجل في الجنة لا تبلغها بعملك، فإذا نزلت بالعبد المصيبة التي تهيئه لذلك المقام في الجنة:

قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

فسرعان ما ينتكس العبد، ويتبرم، ويتسخط على ربه، ويعترض على أقدار الله تبارك وتعالى، فهذه أمور تظهر في حال الشدائد .. ولربما دعا إلى الله عز وجل، ولربما جاهد في سبيله، ولربما بذل ماله، ثم يبتلى فيتسخط، ولربما عاهد الشيطان بأن يتوب إليه توبة نصوحاً عن فعل الخير، وعن صحبة الأخيار والصالحين، وأن يقطع ذلك أجمع؛ لئلا يقع به مثل هذا المكروه الذي ناله، فهذا ليس له نصيب من اليقين.

الموقف الثالث: في حال الحاجة: فإذا احتاج العبد وافتقر إلى المخلوقين، إلى مَالِهِم في فقره في دنياه، أو احتاج إليهم في شئ من الأشياء في دنياهم، فإنه بذلك يختبر يقينه، فإذا كان قلبه يتلفت إلى المخلوقين، ويتطلع إليهم، ويتعلق بهم لينال ما عندهم؛ فإن قلبه لم يتحقق باليقين بَعْدُ. وأما إذا كان قلبه متوجهاً إلى الله وحده لا شريك له، لا يلتفت إلى أحد من المخلوقين، ولا يتعلق بهم؛ فإن هذا اليقين هو اليقين الكامل.

الموقف الرابع: في حال الغنى: فمن الناس من لا يصبر إذا أغناه الله عز وجل، فيصل به ذلك إلى الكفر، لربما قال العبد: إنما أوتيته على علم عندي، وينسى أن الله عز وجل هو الذي أعطاه وأولاه، وأن الله عز وجل هو مالك الملك وأن العطاء بيده، وأن الكون ملكه بما فيه، ينسى هذا ويقول: إنما أوتيته على علم، إنما حصلته بجدي واجتهادي وجهدي، وتحصيلي وذكائي وعلمي بوجوه المكاسب، ولربما قال: حصلته وورثته كابراً عن كابر، ولربما قال غير ذلك مما يكون فيه نسيان المنعم، والذهول عن مقام استشعار إنعامه وإفضاله على العبد، فيكون بذلك كافراً لنعمة ربه جل جلاله.

وعلى كل حال: إذا أردت أن تكون متحققاً باليقين، وأن تعرف ذلك من نفسك؛ فلا تُمْسِ ولا تُصْبِح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، وإذا أردت أن تتحقق باليقين، وأن يكون ذلك وصفاً راسخاً ثابتاً في قلبك؛ فلا يكن أحد من المخلوقين أخوف عندك من الله. وبالتالي فإن صاحب اليقين لا يتعلق بأحد من الخلق لعطاء أعطاه، أو لجمال صورته، أو لغير ذلك، لا يتعلق قلبه به، ويلتفت إليه ليرجو ما عنده، ولا يخاف أحداً من المخلوقين، فيترك ما أمره الله عز وجل به، أو يتردد في التمسك بحبل الله جل جلاله من أجل الخوف من هذا المخلوق، فيكون صاحب اليقين ثابتاً، مرتبطاً بالله عز وجل في كل أحواله، فهو يرجو الله، ويؤمله، ويحبه، وهو أحب شئ إليه، كما أنه يخاف الله عز وجل ولا يرقب أحداً سواه.

ثامناً: الطريق إلى اليقين: كيف نصل بأنفسنا إلى اليقين؟ كيف نتربى على اليقين؟ .. كيف نرتقي بإيماننا إلى هذه المرتبة؟

أعظم ذلك: أن نعلم أن التوفيق بيد الله عز وجل، وأن المواهب بيده، فما على العبد إلاّ أن يلتجأ إليه، وأن يصدق في الإقبال عليه، فيسأل ربه قائماً، قاعداً أن يرزقه الإيمان الكامل، واليقين الجازم الراسخ الذي لا يتزعزع. [انظر: مدارج السالكين 2/ 302]. ومع ذلك أيضاً يبذل الأسباب التي توصله إلى هذه المرتبة، ومن هذه الأسباب:

* الأول: وهو أول درجات اليقين: العلم: فهو يستعمله، فأن تعمل بمقتضى هذا العلم، واليقين يحملك كما قال بعض السلف:'العلم يستعملك –فتعمل بمقتضاه- واليقين يجملك' [مفتاح دار السعادة 1/ 154]. فيندفع العبد للعمل، ويُقدم، وينفق ماله الذي يكون حبيباً إلى قلبه؛ لأنه يتيقن بالجزاء، ويعلم أن من أعلى المراتب والمنازل عند الله عز وجل مرتبة الشهداء، فيبذل نفسه رخيصة في سبيل الله تبارك وتعالى- والنفس هي أحب الأشياء إلى الإنسان-:

لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يُقفر والإقدام قَتَّالُ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير