التفصيل و "الفنقَلَة"
ـ[أبو عبدالله النجدي]ــــــــ[25 - 08 - 03, 01:09 م]ـ
نسمع ـ أحياناً ـ بعض الفتاوي الغريبة، ومن ذلك: اختزال الجواب في كلمة، أو نحوها، كأن يقول المفتي: نعم!
أو يقول: لا يجوز، والله أعلم!
أو يقول: فيه خلافٌ!
ويقابل هؤلاء قومٌ يستطردون، حتى يخرجوا بالجواب عن نطاقه.
ولقد جرى المحققون على "التفصيل" و "الفنقلة"، و"الفنقلة" عندهم منحوتةٌ، من قولهم: (فإن قيلَ، قلنا)، كالبسملة والحيعلة. وهي من أحسن الطرق في نفي الشبهة عن جواب المفتي والمدرّس، وتجدها عند أبي العباس وتلميذه ـ رحمهما الله ـ، ومن المعاصرين ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ.
وقد قلتُ في ذلك:
إذا سطرْتَ جواباً في مُساءلةٍ === فحرِّرِ القولَ فيها وفصّلِ
وبيِّنِ الحكمَ فيها ولا تدَعْ === تعقيبَ هذا باحترازٍ وفنقِلِ
فلو أن المجيب إذا ظن أن السائل سوف يستشكل بعض جوابه أورد ما يمكن أن يرد من شبهةٍ، على طريقة: فإن قيل: كذا، فيقال: كذا وكذا!
خاصّةً في عصرٍ أحدثَ الناسُ فيه أوضاعاً جمّةً، ابتعدوا بها عن نقاء الفطرة، وسلامة الأذهان، واستقامةِ اللسان.
كما أن أهمية "التفصيل" تظهر عند الترجيح بين الأقوال المتعارضة في مسائل العلم، إذ غالباً ما تكونُ الأقوالُ ثلاثة: المنع والإيجاب والثالث يفصِّل، وهذا الأخير تجتمع عليه الأدلة في كثيرٍ من الأحيان، إذ يكون وسطاً بين طرفي قصدِ الأمور، وقد يشذُّ عن هذا الأصل مسائل يكون الحق فيها مع من لم يفصل، وإن لم يكن ذلك مطّرداً ولا غالباً ...
ولما رجح ابن القيم التفصيل في "حكم صيد الحرم"، نقل عن ابن عبدالبر قوله: (قال وحجة من ذهب هذا المذهب أنه عليه تصح الأحاديث في هذا الباب وإذا حملت على ذلك لم تتضاد ولم تختلف ولم تتدافع وعلى هذا يجب أن تحمل السنن ولا يعارض بعضها ببعض ما وجد إلى استعمالها سبيل) تم كلامه .. [حاشية على السنن (5/ 215)].
ومن أخص ما يندرج تحتَ هذا الأصل؛ المسائل التي يكثر التنازع فيها بين النُظّار، ومن ذلك مسائل "التفضيل" بين الأشياء، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ نزاعَ الناس في ذلك ثم قال: (وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن مسائل عديدة من مسائل التفضيل فأجاب فيها بالتفصيل الشافي.
فمنها: أنه سئل عن تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر أو العكس، فأجاب بما يشفي الصدور، فقال: أفضلهما أتقاهما لله تعالى، فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة.
ومنها أنه سئل عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟. فقال: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافياً كافياً .. ) .... إلى أن قال: (فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة) اهـ[بدائع (3/ 683].
هذا، والحديثُ ذو شجونٍ .....
والسلام ...
ـ[أبو عمر السمرقندي]ــــــــ[25 - 08 - 03, 02:06 م]ـ
أحسنتم أبا عبدالله .. بارك الله فيكم
ومن تفريعات الحديث الذي طرقتموه: استقلال بعض المفتين من كلمة (لا أدري) وأخواتها.
ومن لطائف الحيدة في الفتوى - في هذا الباب - أن يُسأل الشيخ أو المفتي عن حكم مسألة بعينها = فيجيب بجواب ليس فيه عند التحقيق جواب شافٍ، أو فيه جواب لكنه على غير السؤال المحدد.
وهذا يقع لبعض كبار الأفاضل في هذا العصر !
فمثلاً .. يُسأل المفتي عن حكم من فعل كذا وكذا؛ من دقاق المسائل ونادرها أو حتى ظاهرها عند بعض طلبة العلم = فيقول: لا ينبغي، الأفضل كذا ... و ... الخ.
فتراه لا يجزم بحرمة ولا كراهة؛ فتردَّد بينهما، بل حاد بالجواب إلى بيان أنه لا ينبغي، وأن الأفضل بخلافه؟!
مع أنَّ السائل يعرفُ أنه لا ينبغي، ويدري أنَّ الأفضل بخلافه؟!
لكنه سأل عن الحكم الشرعي من جهة الجواز أو الحرمة أو الكراهة أو الاستحباب أو السنية.
وقد حصل مثل هذا عند الأكابر من الأئمة الأعلام؛ كبعض فتاوى أحمد ومالك وغيره، التي ينقلها عنهم تلاميذهم في مسائلهم.
ثم يأتي الأصحاب فيختلفون في مراداتهم من إجاباتهم.
¥