فسُرِقت، وسُرِقت دوابهم، حتى جُرِّدُواْ من ملابسهم، ورجعوا إلى البلد بهذه الحال.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فتبعه الأمراء من التتر، وكثير من الجنود، وما دخل البلد إلا ومعه موكب حافل من القادة والجند، يطلبون منه الدعاء، ويتبركون بدعائه رحمه الله، فانظر كيف صنع اليقين لشيخ الإسلام رحمه الله.
* الرابع عشر: مما يورث اليقين: أن صاحبه لا يعرف اليأس مهما طال ليل الظالمين ومهما امتد الظلام: فإن بعد الليل انفلاق الفجر ولا محالة، فالليل مهما طالت ساعاته ومهما اشتدت ظلمته فإنه يزول وينفلق عن بياض الصبح، فأهل اليقين لا يعرفون اليأس، وبالتالي فمهما وقع على الأمة من مصائب، وبلايا، ومحن ونكبات، وتسلط الأعداء؛ فإن أهل اليقين تختلف مواقفهم عن غيرهم من الناس، فمنَ ضَعُف يقينهم؛ يرضون بالأمر الواقع، ويدعون إلى التسليم، والاعتراف بالأمر الواقع بزعمهم، والانخدال للعدو، والاستسلام له.
وأما أهل اليقين: فيصبرون، ويثبتون، ويفعلون ما في وسعهم، وطاقتهم، والله عز وجلّ لا يكلف نفساً إلا وسعها، ثم بعد ذلك إذ أقدرهم الله عز وجلّ، ومكنهم من رقاب عدوهم؛ استعملوا معه ألوان العزائم التي أمرهم الله عز وجلّ بها، وشرعها لهم، فلسان حال الواحد منهم، وقد أخذ العدو بلده يقول:
يا درُ مجدُك لن يضيع فأّمّا خيرا ولا تَستَرسِلي بُكاء
فالحاقدون سَيُغْلَبُون وإن همُ حشدوا جُيوشَ البغي والإفناء
أم ألَّبوا قوماً على قوم ولم يَدَعُوا سبيل المين والإلهاء
فلتصبري الثبر الجميل فـ إنه تاج اليقين وحلية العظماء
فيصبرون، ويثبتون على مبادئهم، ولا يعرفون شيئاً اسمه الأمر الواقع، أو التسليم بالأمر الواقع، وهؤلاء هم الذين يغير الله على أيديهم وإن طال الزمان.
* الخامس عشر: مما يورثه اليقين: أن أعمال أهله الصالحة تكون راجحة في الموازين عند الله تبارك وتعالى: ولهذا جاء عن أبي الدرداء رضى الله عنه أنه قال:' ولمثقال ذرة بر من صاحب تقوى، ويقين؛ أفضل، وأرجح، وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين'.
فصاحب اليقين إذا صلى ركعتين لله عز وجلّ؛ فهي تساوى الكثير مما يركعه غيره ممن قّلَّ يقينه، وإذا تصدق صاحب اليقين بريال واحد؛ فإنه يساوي الآلاف، أو يزيد عليها، من التي يتصدق بها ذلك الإنسان المهزوز، الذي قل يقينه واحتسابه.
والمقصود: أن اليقين يورث صاحبه أموراً جليلة عظيمة، ويؤثر في سلوكه فوائد جمة: فهو يزيد العبد المسلم قربة من الله عز وجلّ، وحبًّا، ورضاً بما قدره وقضاه، وهو لُبُّ الدين، ومقصده الأعظم، ويزيد صاحبه استكانة وخضوعاً لربه وخالقه جل جلاله، كما أنه يكسبه رفعة، وعزة، ويبعده عن مواطن الذل والضعة، وهو أيضا: ً باليقين يتبع النور، والحق المبين، ويسلك طريق السلامة المحققة، فلا يحيد عنها بضعف يقينه؛ رغبة أو رهبة، كما أنه يحمل صاحبه دائماً على الإخلاص والصدق، وتحري ذلك في كل أعماله، كما أنه أيضاً: يضبط العلاقة بين العبد وبين الرب، ويجعل العبد يلتزم الإخلاص، والصدق، والمراقبة، وفعل ما يليق، وترك ما لا يليق في تعامله مع ربه؛ لأنه يعلم أن ذلك يوصله إلى دار الأمان، ولا سبيل إلى الوصول إلا بسلوك هذه الطريق .. هذا ما يتعلق بالأمور التي يورثها اليقين.
عاشراً: الأمور التي تنافي اليقين: وأعظم ذلك أن يكون القلب متطلعاً إلى غير الله عز وجلّ، متعلقاً به، ملتفتًا إليه، ولهذا قال بعض السلف:' حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه السكون إلى غير الله عز وجلّ، وحرام على قلب أن يدخله النور وفيه شئ مما يكرهه الله جل جلاله' [روضة المحبين ص439].
وهكذا الشكوك، والريب، والأمور التي تجلب ذلك: بسماع الشبه، وسماع كلام المخذلين، والمثبطين الذين يثبطون عزائم المؤمنين، ويوهنونهم، ويحثونهم على القعود عن التزام صراط الله عز وجلّ المستقيم، فهؤلاء الذين قَلَّ يقينهم إذا استمع العبد منهم؛ فربما سببوا له شيئاً من ضعف اليقين، حين ذلك يورثه قلقاً، وانزعاجاً، واضطراباً، وهذا يخالف اليقين؛ لأن اليقين طمأنينة، وثبات واستقرار، كما قال ابن القيم رحمه الله:' الشك مبدأ الريب كما أن العلم مبدأ اليقين' [بدائع الفوائد 4/ 913].
¥