ثُمَّ؛ إذا كان السبُّ يصدق على مطلق الشتم أو الطعن في الخصم بالقول، فقد أشكل تحريم سب المسلم بعد موته على من تعارضت في نظره النصوص؛ ففي مقابل ما تقدم من الأدلَّة على التحريم، نقف على ما رواه الشيخان و غيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال حين مرت به جنازة فأثني عليها خير فقال: (وجبت وجبت وجبت). ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها شر فقال: (وجبت وجبت وجبت). فقال عمر: فدى لك أبي و أمي، مر بجنازة فأثني عليها خير فقلت: (وجبت وجبت وجبت) و مر بجنازة فأثني عليها شر فقلت: (وجبت وجبت وجبت)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض).
و ظاهر هذا الحديث يدل على جواز ذكر الميت بالسوء – الذي يدخل في مسمى السبِّ – ففي إقرار النبي صلى الله عليه وسلَّم لمن فعله بين يديه، و ترتيبه الحُكم بوجوب النار عليه، ما يدلُّ على جوازه، و لذلك أشكل القول بالتحريم المطلق على من تعسَّر عليه الجمع بين هذه النصوص.
و مَن جَمَع بين النصوص ذهب إلى التفريق بين حال و أخرى من أحوال سب الميت أو غيبته، و لعل صاحب الصحيح أشار إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف حال الميت حينما قال: (باب ما يُنْهى من سبِّ الأموات)، حيث استعمل (مِن) التبعيضية، و كأنَّه يشير إلى ورود النهي عن سب الأموات في بعض الأحوال فقط، و ليس على الإطلاق.
و ذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين السب و بين مطلق الذكر بالشر، حمله على ذلك الجمع النصوص.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فتح القدير: (السب غير الذكر بالشر، و بفرض عدم المغايرة فالجائز سب الأشرار و المنهي سب الأخيار).
قلتُ: و من خضم هذا الخلاف نخرج بأن النهي عن سب الأموات و الوقوع فيهم بالغيبة، و النيل من أعراضهم بالحط و الغمز و اللمز؛ حكمه حكم نظيره الواقع في حق الأحياء، فمن جازت غيبته و مسبته حياً؛ جاز ذلك في حقه ميتاً، و هو الكافر، و المنافق، و الفاسق المجاهر بفسق أو بدعةٍ أو الداعي إلى شيءٍ من ذلك، فيُذْكَر هذا بما فيه من شرٍ متعدٍِ، شهادةً بما فيه، و تنبيهاً لغيره، و تنفيراً منه؛ ليحذره الناس، و لا يكون ذلك إلا ببيّنة و برهان، لا ريبة فيهما و لا ارتياب، لأن الكلام في المسلم حياً أو ميتاً بما ليس فيه من البهتان المحرم، و إن كان بما فيه من غير وجود مبرر و مقتضٍ شرعيٍ لذكره فهو من الغيبة المحرمة؛ و كلا الأمرين من الكبائر الموبقة.
أما سائر المسلمين، و عموم الموحدِّين؛ فلا يجوز انتهاك حرماتهم أو التعرض لهم بالسب أو الشتم أو السعي بالغيبة و النميمة أحياءً و لا أمواتاً، و ليحذر من يخوض في أعراض المسلمين متجنياً من أن يسوق بريئاً خصماً له بين يدي ملك الملوك، و أحكَم الحاكمين، و مُنصف المظلومين.
قال الإمام النووي رحمه الله [في شرحه لصحيح مسلم: 7/ 20]: (فان قيل: كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري و غيره في النهي عن سب الأموات؟ فالجواب: (أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق و سائر الكفار، و في غير المتظاهر بفسق أو بدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر للتحذير من طريقتهم، و من الاقتداء بآثارهم و التخلق بأخلاقهم. و هذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه مما ذكرنا، هذا هو الصواب في الجواب عنه، و في الجمع بينه و بين النهي عن السب).
هذا، و لا عاصم إلا من عصمه الله، و ما توفيقي إلا بالله.
وكتب
د. أحمد بن عبد الكريم نجيب
[email protected]
http://saaid.net/Doat/Najeeb
ـ[نادر سيف]ــــــــ[13 - 09 - 03, 10:22 ص]ـ
أحسن الله اليكم و جزاكم الله خير جزاء و لي استفسار عن حكم "السب"في حد ذاته من حيث الفاظه و مقتضي الحال و هل هناك ضابط معين له؟ و كيف نوفق بين حث الشارع علي مكارم الأخلاق و ما ورد عن الصحابه 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - من الفاظ تحمل معني السب؟
ـ[براء]ــــــــ[14 - 09 - 03, 03:00 م]ـ
وجزاك خيراً
وهذا الموضوع يبدو أنه يحتاج إلى بحث مطول.