الفاطمي الموعود، والمنتظر المدلول عليه بالادلة، بل إنكار ذلك جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة، البالغة إلى حد التواتر».
ولي ملاحظات على كلام ابن خلدون أرى أن أشير إليها هنا:
الاولى: أنه لو حصل التردد في أمر المهدي من رجل له خبرة بالحديث، لاعتبر ذلك زللاً منه، فكيف إذا كان من الاخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص؟ وقد احسن الشيخ أحمد شاكر في تخريجه لاحاديث المسند حيث قال: «أما ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يكن من رجالها» وقال: «إنه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي تهافتاً عجيباً، وغلط أثلاطاً واضحة» وقال: «إن ابن خلدون لم يحسن قول المحدثين: الجرح مقدم على التعديل، ولو اطلع على أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً مما قال».
الثانية: صدَّر ابن خلدون الفصل الذي عقده في مقدمته للمهدي بقوله: «اعلم أن في المشهور بين الكافة من أهل الاسلام على ممر الاعصار أنه لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الاسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته، ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرّجها الائمة، وتكلم فيها المنكرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الاخبار».
أقول: هذه الشهادة التي شهدها ابن خلدون، وهي أن اعتقاد خروج المهدي هو المشهور بين الكافة من أهل الاسلام على ممر الاعصار، ألا يسعه في ذلك ما وسع الناس على ممر الاعصار؟ كما ذكر ابن خلدون نفسه، وهل ذلك إلاّ شذوذ بعد معرفة أن الكافة على خلافه؟ وهل هؤلاء الكافة اتفقوا على الخطأ؟ والامر ليس اجتهادياً، وإنما هو غيبي لا يسوغ لاحد إثباته إلاّ بدليل من كتاب اللّه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، والدليل معهم وهم أهل الاختصاص.
الثالثة: أنه قال قبل إيراد الاحاديث: «ونحن الان نذكر هنا الاحاديث الواردة في هذا الشأن» وقال في نهايتها: «فهذه جملة الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه في آخر الزمان» وقال في موضع آخر بعد ذلك: «وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا».
وأقول: إنه قد فاته الشيء الكثير، يتضح ذلك بالرجوع إلى ما أثبته السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي عن الائمة، بل إن مما فاته الحديث الذي ذكره ابن القيم في المنار المنيف عن الحارث بن أبي أسامة، وقال: «إسناده جيد»، وتقدم ذكره بسنده وحاصل ما قيل في رجاله.
الرابعة: أن ابن خلدون نفسه قد اعترف بسلامة بعض أحاديث المهدي من النقد، حيث قال بعد إيراد الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان: «وهي كما رأيت لم يخلص منها من النقد إلاّ القليل».
وأقول: إن القليل الذي يسلم من النقد يكفي للاحتجاج به، ويكون الكثير الذي لم يسلم عاضداً له ومقوياً، على أنه قد سلم الشيء الكثير كما تقدم ذلك في حكاية كلام القاضي محمد بن علي الشوكاني، الذي حكى تواترها وقال: «إن فيها خمسين حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر» ثم إنه في آخر البحث ذكر ما يفيد تردده في أمر المهدي، وذلك يفيد عدم ثبات رأيه، لكونه تكلم فيه بما ليس باختصاصه.
هذه بعض الملاحظات على كلام ابن خلدون في شأن المهدي، وسأستوفي الكلام فيها مع ملاحظات أخرى عليه، في الرسالة التي أنا بصدد تأليفها في هذا الموضوع، إن شاء اللّه تعالى.
التاسع: ذكر بعض ما قد يظن تعارضه مع الاحاديث الواردة في المهدي، مع الجواب عن ذلك:
1 ـ تقدم في أثناء كلام الائمة الذين حكيت كلامهم، أن حديث «لا مهدي إلاّ عيسى ابن مريم» لا يتعارض مع الاحاديث الصحيحة الواردة في المهدي ; لضعفه، ولامكان الجمع بينها لو صح، بأن يكون معناه لا مهدي كاملاً إلاّ عيسى ابن مريم (عليه السلام)، وذلك ينفي أن يكون غيره مهدياً، كالمهدي الذي دلت عليه الاحاديث.
¥